ما جرى ويجري في مصر خلال الأيام السابقة، يثير من جديد سؤال "الربيع العربي"، ماهيته وآفاقه، وعلاقة العوامل الداخلية والخارجية في سياقه وتطوراته، وهوية المنظومات السياسية والفكرية التي يستند عليها. عندما اندلعت ثورة الياسمين أولاً في تونس، وتلتها بعد أسابيع قليلة ثورة ميدان التحرير في مصر، ونجاح الثورتين في الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية السابقة، طغى على آراء المثقفين والكتاب والسياسيين عموماً، طابع التفاؤل بشأن الأبعاد والمخرجات التاريخية التي ينطوي عليها ذلك الفعل الثوري، الذي حرك مياهاً راكدة آسنة، شكلت المشهد السياسي العربي لعقود طويلة.
كان الفلسطينيون أشد تفاؤلاً من نظرائهم العرب، في فحص واستنتاج الإيجابيات الاستراتيجية غير المباشرة وغير الظاهرة التي ستنعكس على القضية الفلسطينية، والصراع العربي الصهيوني، رغم أن الحراك الشعبي والثوري في الشارعين التونسي والمصري، لم يرفع القضية الفلسطينية كواحدة من أولويات الأهداف التي يسعى لتحقيقها. وعموماً اتسمت شعارات الجماهير التونسية والمصرية بقدر عالٍ من الوضوح والتركيز على الأهداف الوطنية الداخلية، وامتنعت عن رفع شعارات ثورية أو حادة تجاه الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها الأساسية إسرائيل.
لم يكن تغييب الشعارات والهتافات المعادية لأميركا وإسرائيل سبباً في تخفيض حماسة الفلسطينيين وتفاؤلهم إزاء مجريات الربيع العربي، والأرجح أنهم تفهموا الاعتبارات التكتيكية التي تتطلبها استحقاقات النجاح، هذا فضلاً عن أن تلك الثورات لم تندلع أصلاً وفي الأساس ارتباطاً بمواقف وسياسات أنظمة الحكم الاستبدادية من القضايا القومية، وإنما من وبدوافع وطنية داخلية شاملة.
بعد فترة من الوقت احتدم النقاش والجدل بشأن ما إذا كان الجاري في المنطقة ربيعاً، أم خريفاً، وتراجعت حالة التفاؤل ليس عند الفلسطينيين فحسب، وإنما عند الكثير من المفكرين والمثقفين والسياسيين العرب، بما في ذلك المصريون والتوانسة.
جاء هذا التحول على خلفية الطريقة التي تحقق فيها ربيع كل من ليبيا واليمن وسورية، لكنه جاء أيضاً بعد فوز حركات الإسلام السياسي وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين في تسلم إدارات الحكم في مصر وتونس، والمغرب، فضلاً عن السودان وقطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس، والدور المنتظر لتلك الجماعات في بقية دول الربيع العربي.
وتعمق الخلاف بشأن طبيعة المرحلة، إن كانت ربيعاً أم خريفاً، على خلفية الدعم الأميركي المباشر والمكشوف لأنظمة الإسلام السياسي، والذي قام بناء على تفاهمات مسبقة ولاحقة لفوز الإسلام السياسي في الانتخابات التي جرت في تونس ومصر.
أصبح أهل الفكر والرأي، منقسمين بين تيارين، تيار الإسلام السياسي الذي ألحق بمقولة الربيع العربي، مقولة الشتاء الإسلامي، والتيار الديمقراطي، الوطني الليبرالي والمدني عموماً، الذي أخذ يعيد النظر في توصيف الجاري على أنه ربيع عربي، وهنا تصاعد الحديث أكثر فأكثر وعلى نحو غير موضوعي، إزاء نظرية المؤامرة، التي تديرها الولايات المتحدة والدول الغربية وإسرائيل تحت عنوان الشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلاقة. ومرة أخرى لتنفتح صفحة الجدل حول هذا الموضوع، بعد التطورات الجذرية والتاريخية التي وقعت في مصر في الثلاثين من حزيران المنصرم، والآفاق التي ينطوي عليها مثل هذه التطورات في قلب الأمة العربية وعقلها، بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من تداعيات سريعة ومباشرة على عدد من الدول العربية.
الآن دخلنا مرحلة جديدة، يتحدث فيها الإسلاميون عن انكفاء الربيع العربي، مع إصرار واضح على المقاومة بما في ذلك العنيفة، من أجل استرجاع الأمل الضائع الذي يعتقدون أنه سيعود بعد وقت لن يطول، فيما عاد التفاؤل ليطغى على خطاب وتحليلات وتوقعات المفكرين والمثقفين والسياسيين الذين ينتمون إلى التيارات المدنية.
في الحقيقة إن هؤلاء وأولئك أغفلوا وما يزال البعض يتجاهل جملة من الحقائق ذات الطابع الموضوعي، وينزعون عن الأحداث الثورية الجارية طابعها التاريخي وأبعادها الاستراتيجية. هكذا يكون التفاؤل والتشاؤم مرتبط بالتداعيات المباشرة والقريبة كان ولا يزال من الضروري أخذ المعطيات التاريخية التالية بعين الاعتبار:
أولاً: إن كانت معطيات ووقائع الربيع العربي، تستهدف على نحو غير منظور نقل المنطقة العربية من هامش التاريخ إلى داخله، فإن معظم شروط هذا الانتقال موجودة في تاريخ البشرية، خصوصاً في أوروبا الغربية التي حققت تقدماً يفصلنا عنه في المنطقة العربية قروناً.
ومع فارق الظروف والشروط الموضوعية والذاتية، وأثر العوامل الداخلية والخارجية، وفوارق الزمن، ورغم غياب فلاسفة عصر النهضة والتنوير الأوروبية، عن الحالة العربية، فإن متطلبات الانتقال من هامش التاريخ إلى قلبه، يمكن أن تجد تعبيراتها في الحالة العربية الناهضة والساعية نحو التحرر والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، حتى وإن بدا لبعض الوقت أن الفوارق شاسعة بين الحالتين.
ثانياً: إن التطور الأبرز في مجريات الربيع العربي، يتمثل في تحرر الجماهير العريضة، من كل الفئات الاجتماعية المقهورة بما في ذلك الطبقة الوسطى، من الخوف وارتفاع منسوب وعيها لمصالحها، واستعداداها للنضال والتضحية من أجل تصحيح مسار التاريخ.
هذا يعني أن الجماهير الغفيرة التي خرجت في المرة الأولى لإسقاط أنظمة الاستبداد، ستكون مستعدة للخروج مرة ثانية وثالثة ورابعة، إن لم تصل إلى مبتغاها. إن هذه الجماهير التي يحدوها أمل بتحقيق أهدافها، ولأنها لن تخسر شيئاً أكثر مما تخسره في ظل أنظمة الاستبداد، هذه الجماهير لا تقيم وزناً لمواقف وسياسات وتدخلات العوامل الخارجية، وهي تتحرك وفقاً لشروط وعيها لذاتها الوطنية المستندة إلى حضارة تاريخية أصيلة تعلي الكرامة الوطنية.
ثالثاً: إن القوى المحركة للثورات العربية، تجاوزت على نحو ثوري يتجاوب مع خصائص العصر، كل البنى السياسية والفكرية والتنظيمية السائدة، إذ جاءت المبادرة من الشباب، المتعلم الذي ينتمي عموماً إلى الطبقة الوسطى.
لم تكن الأحزاب ثوريوها ورجعيوها ويساريوها ويمينيوها، علمانيوها وإسلاميوها، هي من فجر الثورات العربية، لا في المرة الأولى ولا في المرة الثانية، كما أن الشباب الذين فجروا تلك الثورات، لم يكونوا بحاجة إلى أموال طائلة، أو إلى أساليب تنظيمية تقليدية، ولا إلى القيادات صاحبة التجربة الطويلة، أو القامات الفكرية والثقافية الكبيرة حتى ينجحوا في مخاطبة وحشد الناس، والتأثير في وعيهم وإرادتهم، الأمر الذي يخرج الحدث من دائرة الحسابات التقليدية، التي تشكل في كثير من الأحيان كابحاً للعمل الثوري.
رابعاً: إن ما يجري ينتمي إلى طبيعة الأحداث التاريخية ذات الأبعاد الاستراتيجية، ما يعني عدم الثبات، وتسارع الأحداث والتغيرات، والحاجة إلى الصبر والصمود على الأهداف، والاستعداد لتقديم الأثمان المطلوبة، وقد تكون باهظة، انطلاقاً وبما يتناسب مع عظمة الأهداف. وفي اعتقادي فإن الشعوب العربية لم تدفع بعد الأثمان التي توازي عظمة الأهداف التاريخية التي تبشر بها وتسعى إليها الثورات العربية، الأمر الذي يعني أن ثمة وقتا، وثمة تضحيات ما تزال تنتظر قبل أن ترسو سفن الثورة العربية على البر الطبيعي، وحتى ترسو ستكون قد سقطت أفكار وقوى ونهضت أخرى


