قاتل زعيمنا الراحل ياسر عرفات ومعه كل الوطنيين الفلسطينيين من أجل الحفاظ على كنزهم الثمين "استقلالية القرار الفلسطيني"، رغم نسبية الأمر، فلا أحد يمتلك قراراً مستقلاً بالمعنى المجرد، إلا الله في علاه.
لم يكن الحفاظ على هذا الكنز أمراً يسيراً بيُسر إطلاق تعويذة "القرار المستقل"، وكان لا بد من تميمة حاكمة مانعة يتعلق بها أبو عمار ورفاقه على مر عقود من الكفاح المسلح والسياسي، عنوانها عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من الدول العربية، واعتبار أن شأن أي بلد شأن خاص بشعبه وقيادته، بالرغم من الأخوة والجيرة والمصاهرة والتاريخ المشترك، ليس لأننا سلبيون أو انتهازيون، ولا لأننا نؤثر السلامة، فمشروعنا الوطني برمته ليس مشروعاً للمسالمين ولا الجبناء، ولكن لأننا في حاجة للجميع، سواء كنا ضيوفاً لاجئين أو عاملين في بلادهم، أو لأن لبلدنا حدوداً مشتركة معهم، كجيراننا الأشقاء في سورية ولبنان والأردن ومصر.
عشنا وعملنا وتعلمنا في بلادهم، وانخرطنا في الكفاح السياسي وغيره على أراضيهم، تدرب فدائيونا فيها، تنقلنا بينها ولذنا بها، وكان كل ذلك يتم برضا الأنظمة الحاكمة المتعاقبة على حكم هذه البلدان وتحت عيونها، وكنا نعلم على الدوام أن هناك معارضة داخلية لكل نظام من بني جلدته، ولنا بالضرورة موقفنا من ذلك كما يقول الرئيس محمود عباس، لكننا لا نتكلم، ويكفي أن حقيقة كوننا محط أنظار الشعوب العربية كمدرسة في التمرد والكفاح كانت سبباً دائماً لنقدنا من هذا النظام أو تلك المعارضة.
لقد أُجبرنا للحفاظ على الحد الأقصى من الاستقلالية في المحيط الشقيق المُضيف على السير دائماً على حد السيف، بين حانا ومانا، بين النظام والمعارضة، ودفعنا ثمن ذلك غالياً إن لم يكن استراتيجيا أكثر من مرة، والحقيقة أن من دفع ومازال يدفع الثمن هو أبناء الشعب الفلسطيني هنا وهناك، كالكويت التي انخسف عديد الفلسطينيين فيها إلى نحو 10% فقط، بعد أن كانوا يشكلون أغلبية المقيمين فيها بعد الكويتيين.
إن أكثر ما يؤذي الأفراد الفلسطينيين تعميم النقمة عليهم كشعب، حين يتدخل طرف منهم في نزاع داخلي عربي، داخل البلد نفسه أو بين بلدين، كما يحدث في سوريا ولبنان ومصر، ويدفع الفرد الفلسطيني ضريبة شأن لا مصلحة حقيقية له فيه، وقد يصل الأمر إلى دفع حياته ثمنا لذلك، عدا أضرار وخسائر لا حصر لها، أشدها صعوبة ترميم ما انكسر في صورتنا كفلسطينيين أصحاب قضية تستوجب أعلى قدر من الحكمة، بالإضافة إلى فشلنا في الحفاظ على ما تبقى من كنزنا الموروث، الاستقلالية!
لا أُفضّل حكم الإخوان المسلمين المُطلق، فهذا زمن قد ولّى، لكن التجربة المصرية التي لم تنته بعد تؤكد أنه لا بد لهم من الحفاظ على وجودهم في المشهد السياسي، لمصلحة بلدهم وليس لمصلحة حزب أو جماعة، تلسعني حقيقة ما نعانيه في فلسطين، خصوصا في غزة، التي يظن الإخوة في حماس أن في إمكانهم حكم غزة كنموذج لحكم فلسطين بشكل منفرد، بالاعتماد على حسابات تتنافى واستقلالية القرار الوطني المستقل، والنهاية عزلة لها وعزلة لأهل غزة وفلسطين.
لا نملك في أول شهر رمضان الكريم إلا الدعاء لمصر أن تمر من هذه المحنة، التي تتضمن الكثير من الإيجابيات والمخاطر، مخاطر قد لا تقف آثارها عند حدود مصر العزيزة، بل كل من يحبها ويحتمي بها.
وفي سياق ذي صلة، أسأل الرئيس الأميركي باراك أوباما عطفا على تهنئته للمسلمين بحلول شهر رمضان: من أين ستأتي المسرات التي تتمناها للمسلمين وبلادك تزرع ألغاما وتنصب مكائد لبلادنا، حماها الله من كل سوء.
tawfiqwasfi@yahoo.com


