خبر : ديموقراطياً وليبرالياً: ما حدث انقلاب وعواقبه وخيمة ..بقلم: د. خالد الحروب

الإثنين 08 يوليو 2013 10:51 م / بتوقيت القدس +2GMT
ديموقراطياً وليبرالياً: ما حدث انقلاب وعواقبه وخيمة ..بقلم: د. خالد الحروب



ابتداء لا بد من القول ان إبداع الشباب المصري في تنظيم حركة "تمرد" كان مُدهشا بكل المعايير، وانه ادخل وعبر الملايين التي استطاع حشدها في زمن قياسي آلية جديدة في العمل الشعبي والجماهيري. وانه اثبت من ناحية ثانية ان الشريحة الشبابية في الوطن العربي هي مخزن هائل للأفكار والحراك الخلاق. "تمرد" اصبحت شبه نظرية يريد شباب آخرون في البلدان العربية من المغرب, إلى تونس, إلى فلسطين تبنيها وتطبيقها. ولا بد من القول ايضا: ان حكم الاخوان المسلمين في مصر تخبط من فشل إلى فشل وقد وفر وقودا متواصلا للمعارضة الشبابية والجماهيرية العريضة كي تستكمل مشروعها الاحتجاجي الكبير.

وكان ذلك الفشل في طريقه لخدمة المسار الديموقراطي ليس في مصر وحدها، بل وفي العالم العربي برمته (بما في ذلك تحجيم تيارات الاسلمة السياسية ودمقرطتها ودفعها إلى مربعات الواقعية). بيد ان ما حدث في مصر من تدخل للجيش ادخل ذلك المسار في نفق مجهول واضاع فرصة تاريخية لعملية الدمقرطة العربية, وفي احسن التقديرات اعاقها وبطأ من وتيرتها. الديموقراطية العربية كانت ولا تزال تواجه عائقين كبيرين في المنطقة هما الانظمة المُستبدة والاسلام السياسي. والانجاز الهائل للربيع العربي تمثل في اسقاط العائق الاول في عدد من البلدان, وهو عائق ثبت بعد عقود طويلة من الدكتاتورية انه صلب ومتجذر ولم يكن بالإمكان مواجهته إلا عبر ثورات شعبية. اما العائق الثاني, الاسلام السياسي, فلم يكن من الممكن إزاحته, او عقلنته ديموقراطيا, إلا عبر التجربة الديموقراطية نفسها, باستثناء الحالات التي سيطر فيها الاسلامي عبر ادوات مستبدة مثل الحكم في السودان الذي وصل إليه عبر الانقلاب العسكري. في بلدان الربيع العربي التي وصلت فيها حركات الاسلام السياسي إلى الحكم عبر الانتخابات توفرت فرصة تاريخية لتجاوز العائق الثاني ديموقراطيا وسلميا ومدنيا. يقوم هذا التقدير على قناعة وحقيقة اثبتتها تجارب البشرية وخاصة في القرون الاخيرة تقول ان اقحام الدين في السياسة مآله الفشل، لأن فيه تشويه للدين وإفساد للسياسة. لن تنجح اية حركة اسلامية في العالم المعاصر في حكم اي بلد من البلدان لأن تعقيدات الحكم والمجتعات والاقتصاد والعلاقات الدولية لا تحتمل وجود منظومة دينية على رأس الحكم. ذلك ان الدين، اي دين, هدفه الهداية وليس السياسة ويقوم على يقينيات وقناعات بين "حق" و"باطل", بينما تقوم السياسة على مساومات وتعقيدات ومناورات وانصاف حلول بما فيها الخداع والكذب احيانا وهي امور لا يحتملها الدين. بيد ان هذه المقولات النظرية ما كان لها ان تصبح قناعات واسعة عند جمهور الناخبين من دون تجارب عملية. في العالم العربي برز الاسلام السياسي, ولاسباب كثيرة وتاريخية, بكونه "المخلص", سيما وهو يرفع شعارا جذابا وفعالا: "الاسلام هو الحل". مرة اخرى, تجارب الاسلاميين في الحكم بعد الربيع العربي كانت كلها تقول ان "اسلمة السياسة" لا مستقبل لها. بل إن التجربة الاكثر نجاحا, خارج المنطقة العربية, وهي تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا, بدأت تتخبط الآن فور ان انحدرت إلى مسار "اسلمة السياسة". بقيت تلك التجربة ناجحة في مرحلة استثمارها وبنائها على ما كان قائما من دولة مدنية ومؤسساتية, ونحجت اكثر عندما ركزت على سياسات الخدمات والاقتصاد. وعندما اراد اردوغان توظيف النجاحات الخدمية والاقتصادية في مشروع اسلمة الدولة والمجتمع ثارت في وجهه شرائح عريضة, وما لم يتراجع عن نزعة التأسلم والمدفوعة بعجرفة سلطانية فليس من المُستبعد ان تتسع حركة "تمرد" التركية هناك.

استنادا على ما سبق يمكن تسجيل عدة ملاحظات حول ما حصل في مصر. الاولى متعلقة بالآليات الديموقراطية في مواجهة رئيس منتخب. الآلية الاهم في محاولة تغيير او اسقاط رئيس منتخب هي الانتخابات. وفي حال إبتعاد موعد الانتخابات عن لحظة اتساع نطاق المعارضة الشعبية تصبح الانتخابات المبكرة هي الحل. وإلى هنا كان مطلب "تمرد" شرعيا وديموقراطيا ومُحقا. وكان بالإمكان مواصلة الضغط على الرئيس مرسي والاخوان للوصول إلى تلك الانتخابات. ولم يكن من الضروري الاستعجال بتدخل الجيش وهو التدخل الذي انهى الممارسة الديموقراطية. كل الذرائع التي يوردها هنا مؤيدو تدخل الجيش فيها وجاهة قوية لكنها ليست كافية لتبرير ذلك التدخل. والقول ان الجيش تدخل حتى ينفذ الإرادة الشعبية, او شرعية الشارع, والملايين الذين خرجوا ضد مرسي تدخلنا في نفق مجهول, وهذه هي الملاحظة الثانية. ذلك ان الاحتكام الى "شرعية الشارع" عوضا عن الشرعية الانتخابية معناه وضع هاتين الشرعيتين ضد بعضهما البعض. وجوهر العملية الديموقراطية يقع هنا بالضبط اي في تقنين شرعية الشارع في إطار الشرعية الانتخابية. بخلاف ذلك, وكما حصل في مصر, نصل إلى مأزق كبير مفاده ان خروج الشارع ضد رئيس يتمتع بالشرعية الانتخابية يبرر للخارجين اسقاطه. وتطبيقا لذلك, وفي الحالة المصرية, ماذا لو افترضنا نظريا ان الاخوان استطاعوا ان يحشدوا "شارعهم" مع مؤيديهم بما يفوق حشد "تمرد"؟ هل يشرعن ذلك لعودتهم للحكم, او حتى ل "تمردهم" على اي حكم مستقبلي يكون منتخبا؟ صحيح ان شعبية الرئيس مرسي وصلت الى الحضيض وربما كانت الاغلبية تريد اسقاطه, لكن هذا وضع معروف في معظم الحالات الديموقراطية. اي رئيس منتخب يفقد كثيرا من شعبيته بعد انتخابه. في فرنسا اليوم وصلت شعبية الرئيس هولاند إلى 24% اي اقل من ربع الفرنسيين, وهناك مظاهرات واحتجاجات شبه يوميه ضده. فهل هذا يبرر خلعه او تدخل الجيش الفرنسي لإسقاطه؟ الملاحظة الثالثة تتعلق بأخونة الدولة ومحاولة الاخوان السيطرة على مفاصلها, وأن بقاء مرسي في الحكم يعني مزيدا من تلك الاخونة. وهذا تخوف مشروع لكنه مُبالغ فيه. في العصر الحالي, حيث انفجار الثورة الاعلامية والتي يوجد فاعلوها في جيب كل مواطن, عبر اجهزة الهاتف النقال والكاميرات, فضلا عن الفضائيات وسواها, لم يعد بإمكان اي حاكم على وجه الارض القيام بما يحلو له بمطلق الحرية كما كانت الامور إلى وقت قريب. كل قرار اتخذه مرسي كان موضع تمحيص ونقد ونقاش اعلامي ليس في مصر وحدها بل وخارجها. كما ان الكل يعلم ان القرارات التي اتخذت بالإمكان إلغائها في اول فرصة، ولا يمكن ان تغير من وجه مصر.

لم يستطع مرسي وحركته الحد من فاعلية الشعب المصري, ناهيك عن اخونته او السيطرة عليه, بدليل نمو واضطراد حركة "تمرد" ذاتها. ولم يستطع ان يسيطر على الاعلام او يحد من فاعليته. الملاحظة الرابعة تتعلق بإقحام الجيش في السياسة وتوكيله الاشراف على العملية الانتقالية, وهي خطوة في المجهول ونحو رمال متحركة. نتمنى ان يكون هذا الاقحام قصير المدى ويرجع الجيش الى ثكناته. لكن إغراء السياسة يطيح بكل النظريات والتعذر بمصلحة البلد والحفاظ على الأمن والاستقرار كان دوما الذريعة الاقصر لدوام الاستبداد, ولدوام حكم العسكر في كل مكان. الملاحظة الاخرى، وبالتأكيد ليست الاخيرة في هذا النقاش, متعلقة بالتخوفات والعواقب التي قد تكون وخيمة جراء هذه الخطوة. مهما حاولنا نفي التشابه بين ما حدث في مصر وما حدث في الجزائر في اوائل التسعينات من القرن الماضي عندما تدخل الجيش هناك وقطع الطريق على الاسلاميين يبقى هناك تشابه جوهري لا مناص عنه. ونعرف جميعا ان خطوة الجيش الجزائري قادت الى حرب اهلية طاحنة اكلت عقدا من السنين وكان ضحاياها مئات الالوف من الجزائريين. من يضمن فلتان الشباب الاسلاميين الغاضبين ولجوئهم الى العنف, وانشقاق شرائح من الاخوان المسلمين وانضمامهم لدعوة الظواهري الذي يفرك يديه فرحا الآن لأن "جبهة مصر" فُتحت اخيرا امامه, حيث لن تنقصه الذرائع ولا المسوغات بعد الآن؟.

Email: khaled.hroub@yahoo.com