مرة أخرى خلال نحو ثلاثين شهرا، ينجح ميدان التحرير في إسقاط رأس النظام المصري الحاكم، وينتصر للشعب، في مواجهة الدكتاتور، ويتحول الى رمز لكل شعوب المنطقة، لا يقل تأثيرا عن تمثال الحرية المنتصب على حافة المحيط، على خليج نيويورك، يستقبل كل القادمين من الشرق، سواء كانوا سائحين او مهاجرين.في الخامس والعشرين من يناير العام 2011 لم يصدق احد، أن متظاهرين في بلد شرق أوسطي، يمكنهم ان يسقطوا حاكما، جلس على العرش منفردا طوال ثلاثين سنة، يتحكم في كل مقاليد الحكم، خاصة وان هؤلاء، لم يرفعوا سوى الصوت والنكتة، بل جعلوا من الميدان أشبه بمسرح إغريقي، يطلقون فيه كل ما في صدورهم من حب للحياة ومن غضب على الاستبداد، لكن المعجزة تحققت، بعد سبعة عشر يوما فقط.وفي الثلاثين من يونيو هذا العام 2013، لم يتوقع أحد، أن ينتصر الميدان مرة أخرى، على حزب فاز قبل عام فقط بأغلبية انتخابات مجلس الشعب، ثم في انتخابات الرئاسة، وهو حزب عمره خمسة وثمانون عاما، يتمتع بقوة تنظيمية هائلة، ولديه ماكنة إعلامية ودعوية، وأموال وحلفاء في الداخل والخارج، لكن المعجزة أيضا تحققت.وفي الحالتين أثبت الشعب الذي أصر على متابعة طريق الثورة، بكل جلد، أن لا مستحيل مع إرادة الشعوب التواقة للحرية، وأن نيل الحرية دونه العرق والجد والاجتهاد والتعب، وأن هذا الطريق له نهاية سعيدة.شعب مصر إذاً، الذي التقط ما تتوق إليه شعوب المنطقة من حرية ومن انعتاق من الأغلال والقيود التي تحول دون تقدمها وتطورها، وحتى تحررها، أكد أنه ليس جديرا بالحياة، ولا بالمكانة المتقدمة بين شعوب العالم فقط، بل إنه روح وقلب الأمة العربية، وانه قائد شعوب ودول المنطقة، العربية والشرق أوسطية والأفريقية كلها .وعلى مدار مسيرة ثورة الحرية المستمرة منذ عامين ونصف، خلق الشعب المصري حقائق جديدة، اولها أنه أحدث انقلاباً في علاقة مؤسسات الدولة بالشعب، فبعد ان كانت أجهزة الأمن والجيش أدوات بيد النظام، مهمتها ان تثبت أركانه، وتحمي امتيازاته، صارت أدوات بيد الشعب تحمي حقوقه ومكتسباته، في المرة الأولى تفككت أجهزة الأمن الداخلي، وحمى الجيش حق المواطنين في التظاهر، وساهم في إسقاط النظام، وفي المرة الثانية، حاول نظام الإخوان ان يجعل من أجهزة الامن والجيش أدوات تثبت أركان عرشه، لكن الجيش انحاز للشعب، وكذلك فعلت أجهزة الأمن الداخلي، وبذلك، فإن الشعب والجيش واجهزة الأمن بوحدتهم، حموا الدولة المصرية من العبث الإخواني، الذي سار بها على مدار عام على طريق الضعف والتفكك، لدرجة باتت معها مصر مهددة من عدوين خارجيين : أثيوبيا وإسرائيل، الأولى وجدت في ضعف مصر الإخوانية فرصتها لتحقيق حلمها القديم بتحويل مياه النيل، والثانية، بتحقيق مشروع التوطين الفلسطيني في سيناء، من خلال توسيع قطاع غزة بتبادل أراض بين إسرائيل ومصر الإخوانية، في سيناء والنقب لإقامة الدولة الفلسطينية على ما يقارب سبعمائة كليو متر مربع، وهكذا يمكن القول، بأن الجيش والشعب المصري قد دافعا عن الدولة المصرية بامتياز.والأهم بالطبع ان الجميع يدرك الآن ان طريق قوة ومنعة الدول، انما تتأتى من حرية شعوبها، وان أنظمة القمع مهما رفعت من شعارات فانها ستكون ضعيفة في مواجهة العدو الخارجي، وان نظاما يقمع شعبه لا يمكنه ان يحقق التحرر لبلده، أي ان قضيتي الحرية والتحرر متلازمتان.امور عديدة يمكن قولها، بهذه المناسبة التاريخية، التي سيحفظها التاريخ على أنها واحدة من أهم المنعطفات التي مرت بها المنطقة، فيوم إسقاط نظام حكم الإخوان، يوازي أيام حطين وعين جالوت واليرموك، وربما حتى أنه يشبه يوم فتح مكة، لكن المهم هو ان نؤكد على أن خيار الشعوب بالسير على طريق الحرية كان خيارا صائبا، وكل من شكك بالربيع العربي استنادا الى أنه بعد إسقاط أنظمة حكم الفرد، تأتي صناديق الاقتراع بأحزاب الإسلام السياسي والجماعات الإسلامية الى الحكم، إنما كان مخطئا، فذلك طريق إجباري، ولكن _ وكما أكدنا مرارا _ المهم متابعة الطريق، وعدم التوقف في منتصفه، لأن الإسلاميين أرادوا انقلابا، وهم جماعات غير ديموقراطية، لكن منطق العصر ومتابعة الحراك يهزمهم، هذا أهم درس أحدثته ثورة 30 يونيو العظيمة في مصر، لذا فعلى العكس مما يعتقد بعض أنظمة حكم الاستبداد من أن سقوط نظام الأخوان في مصر يمكن أن يوقف جذوة الاستمرار في الثورة في الدول العربية الأخرى _ سورية مثالا _ نحن نعتقد بأن الربيع العربي استمد قوة دفع جديدة، ذلك ان ما حدث لا يمثل عودة للماضي، بل دخولا في المستقبل، وتأكد للجميع بان الشعوب العربية ليست بين خيارين فقط، أحدهما أسوأ من الآخر، إما نظام حكم الفرد المستبد _ حتى لو كان وطنيا، او نظام حكم المرشد والجماعة، بل هناك خيار الديموقراطية الشعبية، التي تحقق مكانا للجميع وتبني دولة المواطنة، حيث يجد الإسلاميون المعتدلون مكانا لهم، مع العلمانيين وغيرهم، وان الربيع العربي ذاهب لإقامة الدولة المدنية، وان خيار الدولة الدينية، لا مكان له، بما في ذلك الدولة اليهودية التي يسعى إليها نتنياهو.ولعل أول انعكاسات صيف مصر الذي أنضج بذور ربيعها، وقدم للجميع ثمرا طيبا، هو أن تحقيق المصالحة الفلسطينية بات ممكناً. Rajab22@hotmail.com