خبر : فصول «الربيع العربي» ...د. السيد ولد أباه

الثلاثاء 02 يوليو 2013 02:57 م / بتوقيت القدس +2GMT
فصول «الربيع العربي» ...د. السيد ولد أباه



في مدينة «أصيلة» المغربية، حضرت هذا الأسبوع ندوة «فصول الربيع العربي في عيون العرب والآخرين»، التي التأمت في إطار مهرجان المدينة المتألق، الذي يشرف عليه الوزير المثقف «محمد بن عيسى». شارك في الندوة جمع من أبرز الشخصيات الفكرية والسياسية العربية والدولية، التي تناولت حصيلة حركية التغيير الجارفة التي عرفتها المنطقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ولا شك أن أجواء التأزم المتفاقم في بلدان «الربيع العربي»، قد هيمنت على هذا اللقاء الفكري الرفيع، الذي تميز بحيوية نقاشية عالية وروح استشرافية ثاقبة. ولقد بدا لي من التعليق على موضوع الحوار، أن حركية التغيير العربي التي أطلق عليها عبارة «الربيع» (لعل الصحفي الأميركي توماس فريدمان هو أول من صاغ هذه العبارة)، تستوقف اليوم عن النظر في رهانات ثلاثة، استأثرت بالجدل الدائر حول مآلات ومصائر التحول الجاري. يتعلق الرهان الأول بمعادلة الحرية والاستقرار التي تشكل حالياً بؤرة الاهتمام في الساحات التي شهدت مسار التغيير الراديكالي. فلقد بدا من الجلي أن التجربة الانتخابية الحرة التي عرفتها الدول المذكورة بعد سقوط الأنظمة الشمولية، لم تفض إلى تطبيع الوضع السياسي، وحل مشكل «شرعية» السلطة الذي ظهر أنه غير قابل للاختزال في معايير التمثيل السياسي والمنافسة التعددية الحرة. وما تشهده مصر حالياً من تأزم في الشارع وصدام حاد بين القوى السياسية، يُبين بوضوح أن الحالة الانتخابية خارج سقف الإجماع السياسي، ليس باستطاعتها حسم معضلة شرعية الحكم في المراحل الانتقالية الهشة، التي يجري فيها تأسيس النسق السياسي ووضع قواعد انتظامه. لقد شرح لنا وزير الخارجية البرتغالي السابق «جيم غوما»، أن تجربة بلاده الناجحة للمرور من النظام العسكري الشمولي إلى الديمقراطية التعددية، اقتضت ابتكار صيغ توفيقية تدريجية بين مطلب التحرر الديمقراطي، ومطلب تأمين الحالة السياسية المستقرة من خلال تسويات توافقية لا غنى عنها، لتثبيت وتطبيع الحالة السياسية. ولا شك أن بلدان «الربيع العربي» لم تستفد من الدرس العراقي بعد سقوط النظام «البعثي»، فلجأت في مجملها إلى تقويض البنيات الإدارية للدولة باسم اجتثاث النظام المنهار. ويتضح هذا الأمر بجلاء في أداء الحكومات الجديدة الضعيفة والعاجزة وفي تفكيك أو إضعاف مؤسسة الجيش، التي هي الدعامة الأساسية لدولنا ذات التركيبة المجتمعية الهشة. سلكت البلدان الأوروبية في مساراتها الانتقالية طريقاً مغايرة قوامها التسويات التوفيقية المؤقتة، وهي التجربة نفسها التي انتهجتها بلدان أميركا اللاتينية والديمقراطيات الأفريقية الناجحة وفي مقدمتها جنوب أفريقيا. يتعلق الرهان الثاني بطبيعة النموذج الديمقراطي الذي يجري اختباره في المنطقة، وهو في مجمله – على اختلاف سياقات تنزيله – المسلك الليبرالي التعددي في مسطرته الإجرائية الانتخابية. ومع أنه لا أحد يشكك في أن هذا النموذج هو النهج الوحيد الذي أثبت جدوائيته وفاعليته، إلا أن الهندسة الدستورية والسياسية العربية أظهرت فقراً فكرياً وتنظيمياً فادحاً في ملاءمته وتبيئته في السياقات العربية التي تختلف في خصوصياتها ورهاناتها عن الحقول الأصلية، التي انبثقت فيها هذه التجارب. ومن الإشكالات المطروحة في هذا السياق ما يتعلق بالأرضية الثقافية للنظام الديمقراطي التعددي، أي بمدى إمكانية استنبات نسق يكفل الحريات العامة، ويجسد الإرادة الجماعية المشتركة في مجتمعات لم تتشبع بالمثل والقيم والأفكار الليبرالية التي هي المهاد النظري والأيديولوجي للديمقراطيات التمثيلية الانتخابية. وكما أنه من غير الممكن الدفاع عن الأطروحة الثقافوية الراديكالية التي تذهب إلى تأكيد عدم قابلية «المجتمعات الأبوية والباترمونالية» العربية للتكيف مع الديمقراطية التعددية، فإن إغفال المقتضيات الثقافية في تداخلها الكثيف مع أبعاد الوعي والمخيال المجتمعي يؤدي حتماً إلى اختلالات خطيرة في المسار الديمقراطي الانتقالي. كان الرئيس التونسي الأول «الحبيب بورقيبة» يقول إنه يربي الشعب التونسي على الديمقراطية بتكوينه تكويناً حداثياً وتحريره فكرياً ومجتمعياً، لكي يكون مهيأ للحرية السياسية، لكن ما حدث هو الانفصام المتزايد بين نخب تحديثية تحمل مشروعاً تنويرياً فوقياً وقاعدة مجتمعية عريضة تتمسك بخطاب الهوية الانكفائي للوقوف ضد حداثة قسرية متسلطة، مما استفادت منه التيارات الإسلامية التي طرحت شعار «الأصالة» و«الدين» مقابل ما دعته «التغريب الاستبدادي». وما يخشى اليوم هو المشهد المعاكس لهذا السيناريو بأن يتحول «الإسلام» إلى بؤرة الصراع داخل الحقل الديني نفسه الذي يشهد تناقضات وصراعات تأويل شرسة، وداخل الساحة الفكرية والسياسية العامة، بعد أن أصبح من الملح فتح حوار جريء وحر حول منزلة الدين في الشأن العمومي. أما الرهان الثالث، فيتعلق بالسياق الدولي مما يعكسه النقاش المحتدم حول استراتيجيات وسياسات القوى الدولية الرئيسية إزاء حركية التغيير العربي. وبغض النظر عن حالة التلكؤ البديهية في الموقف الأميركي والأوروبي إزاء «الثورة السورية»، فمن البديهي أن القوى العالمية الكبرى، انحازت إلى مشهد التحول، ورحبت بديناميكية «الربيع العربي» ودعمتها في بعض الحالات (كما هو شأن الإسناد العسكري للثورة الليبية)، بيد أن صعود التيار الإسلامي، ولّد أسئلة جديدة تتمحور حول المقاربة الإستراتيجية الفعلية إزاء أنظمة الحكم المنتخبة، التي أظهرت حرصاً واضحاً على استمالة الأطراف الفاعلة في النظام الدولي، وطمأنتها. ينعكس هذا النقاش في الأدبيات السياسية الأميركية على الأخص ببروز أطروحة تدعو إلى دعم «الخيار الإسلامي» للوصول إلى نتيجة مضاعفة هي كبح خطر «الإرهاب الأصولي» ودعم قيام أنظمة محافظة تتبنى مسلكاً ليبرالياً في الاقتصاد، مما يوفر على الولايات المتحدة ثمن الصراع العقيم، الذي خاضته سابقاً مع أنظمة الحكم القومية العربية، التي انتهت مضطرة إلى قبولها والتعامل معها، بل والتحالف في سياقات محددة. سألت السياسي الليبي «عبد الرحمن شلقم» عن مستقبل بلاده، فأجابني أنه لا يتوقع استقراراً قبل خمسين سنة، مضيفاً بنغمة تفاؤل:«أليس من الجميل أن نكسب في نصف قرن ما حققته أوروبا في قرنين كاملين؟».