مصر وطن المصريين لكنها ليست وطن المصريين وحدهم . هذه بداية معقولة، والإشارة إلى معنى مصر ودور وثقل مصر . الإشارة إلى خفة دم مصر وعمق تأثيرها في الأحوال الطبيعية . مصر الفكرة أبعد وأبعد بكثير مما يحاولون، ولقد حاولوا “تقزيم” فكرة بحجم التطلعات والأمل، وفكرة بحجم الوجود . عزلوا مصر عن محيطها العربي وسياقها الدولي . أدخلوها في قوقعتهم وضجتهم الفارغة . أدخلوها في آرائهم الضيقة . أثخنوا مصر جراحاً، وبمنطق الكهوف الذي تعودوا عليه وأدمنوه، انحصروا في المشهد المتعالي لا العالي، وابتكروا أساليب جديدة في احتكار الرأي والحرية والبلد . مصر، فلا مفر في مواجهة شمسها، ولا مفر من العاطفة الغامرة تجاهها، لكن المسألة في الوقت نفسه اقتصاد أيضاً وأرقام . سياسة ودور يتراجع بسرعة رهيبة . سيطرة غير مبررة على المؤسسات والمحافظات . أخونة تنادي على نفسها كالمريب . تحميل لصندوق الاقتراع ما لا يحتمل . الصندوق الذي قال كلمة المصريين قبل عام من حق المصريين أن يعيدوا قوله بعد تجربتهم المريرة مع نظام استبدادي يعد سليلاً شرعياً غير مشروع للتأسلم وللإسلام السياسي، ولكل التيارات والأفكار الظلامية التي شمر أهلها عن سواعدهم على حين غفلة من الدهر، وخرجوا من جحورهم إلى الشارع والمكتب والوزارة ووسيلة الإعلام، وأخذوا، بقصد وهذه جناية، أو من دون قصد وهذه جناية أكبر، في تشويه صورة مصر ووجهها الجميل والمتألق دائماً، وكأن هذه هوايتهم أو مهتهم في الحياة . رتب أولئك أولوياتهم وفق أجندة خاصة قميئة، ومسمومة، ما عجل باحتقان الشارع والرأي العام، وما أتاح للتمذهب والتطيف والتعصب بيئة خصبة تحت مظلة “دولة اللادولة” . وحين يدعو النظام المصري قوى المعارضة إلى الحوار، فأي حوار في حضور أكثر من مائة شهيد في عهد نظام ما زال يعتبر نفسه في الخطوات الأولى والبدايات؟ . . أي حوار مع تهميش الرأي الآخر وتعزيز الإلغاء والإقصاء؟ . . أي حوار بين نظام بكل هذا الضيق وشعب كبير أبي كريم بكل هذا الاتساع؟ على امتداد أيام الزمان كان شعب مصر العظيم التجسيد الحقيقي للحلم العربي، وهو اليوم، بكل ما يفكر أو يمارس أو يتحرك، ما يزال يجسد الحلم لكن الحلم الأقرب بالرغم من البعد، والأقدر على التحقق والإمكان بالرغم مما يطوق اليقين من غيوم الشك أو حتى “الاستحالة” . ولا شك بعد الآن . مصر، التي هي وطن العرب جميعاً وليس المصريين وحدهم، هي التي تصدّر اليقين اليوم . وهي، مرة جديدة، تبث المعنى والأمل . مصر الوطن والفكرة، ومصر الطريق والعنوان . وأمس قالت مصر الكبيرة كلمتها الكبيرة . خرجت مصر كلها إلى الشارع، إلى الشوارع والآفاق والفضاءات . قالت إنها تريد استحضار تاريخها وتجربتها ودورها، وقالت إنها لا تريد حكم المرشد، وإنها أكبر من جماعة تربت في الكهوف حتى تعودت عليها وأدمنتها . ولمصر الأمس واليوم والغد . لمصر القلب والعين والبصر والسمع والفؤاد . لمصر نشيد الأحفاد ودعاء الأمهات . لمصر الحب كله والحقيقة كلها .