في زمن بعيد، غابر، هام الحلاج على وجهه في الأرض مردداً: “اقتلوني . . فتؤجروا . . وأستريح” . مثل هذه الدعوة تعبير صارخ عما يمكن أن يؤدي إليه غياب التسامح، بوصفه قيمة، من حياة أي مجتمع وتاريخ أي أمة . ومن يتأمل في الحاضر البائس لبلداننا العربية، سيهوله هذا الغياب الفادح للتسامح من حيث هو رديف لتجاور الآراء المختلفة وتعايشها . ولو أمعن النظر أكثر لوجد أنه عن هذا الغياب ينجم هذا الكم الهائل من التعقيدات والنزاعات والصراعات، التي كثيراً ما تتخذ صورة دموية، وينجم عن ذلك أن جدلاً صحياً للأفكار والآراء لا ينشأ، وإنما تحل مكانه الرغبة الدفينة بإقصاء التعددية لمصلحة تمكين فكرة، كائنة ما كانت، من السيادة . كان فولتير لاحظ في حينه “أن التسامح هو نتيجة لكينونتنا البشرية، لأننا جميعاً نتاج الضعف، كلنا هشون وميّالون للخطأ، لذا دعونا نتسامح مع جنون بعضنا بعضاً بشكل متبادل”، وبرأيه فإن “الآراء كلها متساوية لأنها قابلة للخطأ مثلما هي قابلة للصواب، وإذا سلم الجميع بذلك أمكن الوصول إلى التسامح المتبادل” . قد يبدو أن ما يذهب إليه فولتير ينطوي على مقدار كبير من المثالية، وهو الذي تعهد بأن يقدم رأسه قرباناً لحق خصمه في التعبير عن رأيه، لأنه قد لا يأخذ بالعناية الكافية ما في هذا العالم من تناقض عميق في المصالح، تجعل الناس أحياناً تتزاحم وتضفي على نزاعاتها أشكالاً غير متحضرة، ولكن فولتير كان في ما يبدو ينشد التعبير المتحضر عن الاختلاف في الأفكار والمصالح الذي لا يمكن أن يقوم إلا على فكرتي التعايش والتسامح والقبول بتعددية الأفكار والآراء، وحق الناس في اختيار أسلوب الحياة الذي يناسبها . على مساحة أوطاننا العربية الشاسعة في هذا الظرف الدقيق، ثمة شواهد مرعبة ومحزنة عما يمكن أن يسفر عنه غياب التسامح في التكوين الثقافي للأفراد والجماعات، فَلْنَرَ المشهد الدموي في أكثر من بلد عربي، ولْنستعِدْ وقائع من التاريخ القريب للدولة القُطرية العربية إما في علاقاتها مع بعضها بعضاً وإما في علاقاتها مع مجتمعاتها الأهلية في الداخل، ولْنَرَ ما آلت إليه الأمور من جراء ذلك، ولنتأمل في علاقات المجموعات الفكرية أو الحزبية أو الدينية مع نظيراتها من المجموعات التي تخالفها الرأي، ولْنَرَ ما أوصلنا إليه غياب التسامح في هذه العلاقات من كوارث .