قليل من التدقيق في المشهد المصري العام، بين ما جرى قبل سنتين ونصف السنة تقريباً، وما يتهيأ له مختلف شرائح المجتمع المصري، يظهر أن مصر قادمة على خيارات أحلاها مر . ففي المشهد العام يبدو أن ثمة انقساماً عمودياً حاداً ينتاب السلوك الجماهيري المصري، وهذه المرة على قواعد مختلفة عن السابق، أبرزها أزمة هوية النظام لا سياساته فقط، ما يدلل على عمق الفجوة الحاصلة ويعزز من مخاطر انفلات الأمور من عقالها وذهابها نحو مواقف وخيارات حادة تصعب معها السيطرة على مجمل الأمور الداخلية، وما يتعلق بها من أبعاد سياسية وأمنية خارجية . ما حصل قبل سنتين ونصف السنة كان بمثابة حلم أنهى عصراً بكامله، لكن النتائج والآثار والتداعيات الحاصلة اختلف عليها المصريون، وافترق حيالها سياسيوها ومفكروها ومحركوها . لم يتمكن من تسلم السلطة في مصر من الاستفادة ولو بشكل معقول، أو حتى مقبول، من خطايا من سبقه في الحكم، بل مارس السلطة بالمناهج والأفكار والسلوكات السياسية نفسها، ما ضاعف وأجج نقمة الكثيرين، بل ثمة ظهور لسلوكات اجتماعية سياسية يمكن أن تصل بأصحابها إلى خيارات مدمرة . ثمة استفراد في الحكم، وتهميش واضح لفئات سياسية واسعة ووازنة في الحياة السياسية المصرية . وثمة محاولات وصلت إلى حد الحسم في تغيير مفاصل النظام ولو عنوة، الأمر الذي أدى بفئات ليست متواضعة الحجم أو العدد أو النوع، إلى حسم خياراتها باتجاه الوصول إلى إسقاط النظام لا إلى إعادة هيكلته أو إصلاحه، ما يعني أن دوامة من العنف السياسي سوف تظهر وبقوة، ومن السهل تحويلها إلى مظاهر أكثر عنفية لاحقاً . إن الأسباب الداخلية هي أكثر من أن تعد أو تحصى لتأجيج الحراك القائم، إلا أن الجديد فيه أيضاً هو تأثر الوضع القائم بمجمل عوامل خارجية لا يقل تأثيرها عن القضايا الخلافية الداخلية . فمصر محاصرة الآن بأزمات قريبة وبعيدة جغرافياً؛ وهي ذات صلة مباشرة بما يجري فيها . فمثلاً حتى الآن لم يحسم الوضع الليبي بمختلف أزماته الداخلية والخارجية، وهو عامل مؤثر ومباشر في الحياة السياسية المصرية . الأمر نفسه يتشابه في جنوبها مع السودان وجنوبه، مضافة إليه أزمة المياه مع إثيوبيا وسدها، مروراً بالأزمة السورية وما اتخذ من مواقف مصرية مؤخراً بشأنها . معطوفة على ما يجري في تركيا حالياً، باختصار مصر اليوم ذاهبة برضاها أو عنوة إلى المكان الذي لا تحسد عليه . والأخطر من ذلك، أن مجمل ما يظهر في مصر، سيكون له الانعكاس المباشر على العديد من مناطق الإقليم العربية وغير العربية . فتجربة الإسلام السياسي الذي وصل إلى السلطة في بعض الأنظمة العربية على أنقاض حراك شبابها، لم يقدم رؤيته الواضحة لمختلف التحديات المطروحة، بل كان بمثابة الفتيل الذي يُهيئ لإضرام النار هنا أو هناك . إن قراءة متأنية لما جرى في بعض البلدان العربية وما تتهيأ له مصر حالياً، يظهر كأن قدراً محتوماً لا يرد، مفاده تدمير الدول العربية، أنظمة ومجتمعات من دون تفريق . وبعيداً عن نظريات المؤامرة التي نجيد التنظير لها نحن العرب، ثمة سياق نمضي به برضانا ومعرفتنا المسبقة له، من دون وازع أو رادع، كأن هذا النمط السلوكي المجتمعي أضحى سلوكاً بالفطرة أكثر من كونه سياقاً تعوّدنا عليه . مصر اليوم هي بأمسّ الحاجة إلى لغة العقل وسلوك التعقل، باعتبار أن ما يُحضر لأمتنا العربية في الموجة الثانية من حراكها، هو أصعب وأشد فتكاً من الموجة السابقة . هي حالة أشبه ما تكون بحالات النحر والانتحار الجماعي لكل ما له علاقة بنظام أو قانون أو دستور . إنها صورة نرجسية عن فوضى عارمة متنقلة من مجتمع إلى آخر، وسط آمال وآلام ربما لا نهاية لها . اما الأخطر من كل ذلك، فهو أن تعميم الفوضى في مصر يعد الحلقة الأهم في حزام الأمان الذي تبحث عنه وتعمل له “إسرائيل” ليل نهار . فمن دول الطوق المواجهة ل”إسرائيل” إلى جماعات متناحرة متقاتلة تشكل البيئة الممتازة ليس لحماية “إسرائيل” فقط، بل لديمومة سطوتها وتسلطها، وبالتالي استمرار انقسامنا وضعفنا وتفتتتا . إنها عادة من الصعب أن نغيرها .