عندما تقرأ خبراً في مواقع التواصل الاجتماعي يدور حول سخرية من فتوى حول قضية اجتماعية معينة؛ فإنك تقلق دون شك على مكانة الفتوى في المجتمع، وتخشى على قوتها المعنوية لدى الرأي العام المسلم. ومن ناحيتي أرى أن سخرية «المتَوْترين»؛ بتسكين الواو؛ من بعض الفتاوى تنطلق من رفضهم ابتذال القوة المعنوية للفتوى بسبب تصرفات بعض من يطرحون أنفسهم بوصفهم أصحاب المعرفة الكاملة بالدين الإسلامي، وبالتالي فإن سخريتهم ليست من الفتوى، بل ممن أطلقها، وبذلك فهم يعلنون «البراءة» من هذا النوع من الخطاب المتشدد البعيد عن الإسلام وغير المقنع في أحيان كثيرة. أعتقد أن واجب الحفاظ على مكانة الفتوى الدينية يحتم على رجال الدين أن يرفضوا مثل هذه الفتاوى لأن المسألة تجاوزت المنطق. وكثيراً ما يتردد المرء في تناول مسائل الفتوى خوفاً من ردة فعل المجتمع، باعتبار أن صاحب الفتوى يستمد قوته من المكانة الدينية التي يمثلها؛ والتردد سببه القلق من سوء التأويل والفهم الخاطئ من بعض أفراد المجتمع لرأي قد يطرح فيه. والسبب الآخر للقلق، أن هناك تنامياً للمفتين «المتوَترين»، بفتح الواو؛ الذين لم يعودوا منشغلين بما قد تجرّه فتاواهم من مصائب على الدين الإسلامي وعلى المجتمع، وكأن دورهم يقتصر على إخراج الفتوى، حتى لو خرجت عن السياق الذي يفترض أن تكون فيه، ناسين قوة التأثير المعنوي للدين على الأفراد. لكن انتشار الفتاوى المستهجنة بشكل يمثل تهديداً حقيقياً على مكانة الدين والمجتمع، يدلّ على أن بعض من يطلقونها لا يشعرون بالمسؤولية، حتى وإن تراجعوا فيما بعد؛ وهذه ليست حالة أولى يتراجع فيها مفتٍ عما قاله. وبالتالي وجب عليهم احترام هذه النظرة لهم، ووجب علينا المطالبة بالحفاظ على مكانة الفتوى. السخرية من التلاعب بمكانة الفتوى تستفز الكثيرين في المجتمع؛ لأن الخلل في الأشخاص وليس في الدين. والغريب أن رجال الدين الذي لهم مكانتهم المجتمعية يغضون الطرف عما يحدث، إلى أن وصلت بأحد المحسوبين على تيار سياسي إلى الدعاء على مسلمين من أبناء وطنه وكأنه يدعو على من لا يؤمنون بالدين الإسلامي. الأسبوع الماضي كان حافلاً بالعديد من الفتاوى حول مواضيع مختلفة، وكلها كانت محل سخرية من قبل المتوْترين. قد يكون مفتي تحريم زيارة دبي تراجع عن فتواه. لكن هناك فتاوى لم يتراجع أصحابها عنها، ومن ذلك تكفير من يخرج على الرئيس المصري محمد مرسي؛ علماً بأن هناك من خرج على رؤساء سواه لم يُصدر أحد بحقهم فتوى ما. وهناك فتوى خاصة للفنان «التائب» فضل شاكر بأن يقتص لنفسه ويقتل من يعتقد أنه اعتدى على بيته، وهو أكد بأنه سيعمل بتلك الفتوى. لا يمكننا أن ننسى ما فعله المسلم البريطاني من أصل نيجيري، عندما استند إلى فتوى الانتقام للشعبين الأفغاني والعراقي بقتل الجندي البريطاني في الشارع بطريقة بشعة، وتأكيده أنه سيكرر الفعل إذا ما أتيحت له الفرصة، فكانت النتيجة الهجوم على بعض المساجد في بريطانيا. المسألة لا تقف هنا، فثمة فتاوى لاقت سخرية من المجتمع، مثل فتوى إرضاع الكبير، وإرضاع الزميل في العمل، وكذلك فتوى أن تتحجب البنت أمام والدها؛ والخلاف على فتوى زواج «المسفار»، مع أننا لم نحسم «المسيار» بعد! في ظل هذه الحالة أعتقد أنه لا يكفي تقنين الفتوى فقط برغم أهمية الأمر، وإنما يتطلب الأمر معاقبة كل من يعطي فتوى وهو غير مخول بذلك، على اعتبار أن كل دولة عربية تقريباً لديها هيئة رسمية مسؤولة عن إصدار الفتوى، ولكن الالتزام بها غير موجود. وأنا أعلم أن مثل هذه الحالة تعني إغلاق باب الاجتهاد، وهو إحدى ميزات الفتوى، لكن لو نظرنا إلى ما تسببه الفتوى «الطائرة» من مشكلات على سماحة الدين الإسلامي وعلى تفتيت المجتمع، لأدركنا أهمية الأمر. لا يمكن أن نلغي الآثار السلبية لأي فتوى حتى لو تراجع المفتي عنها، باعتبار أن هناك من يبرر لنفسه حتى على المدى البعيد أن يرتكب جرماً باسمها، كما فعل ذلك الشخص الذي اعتدى قبل سنوات على الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ استجابة لفتوى سبقت اعتداءه بثلاثين عاماً. المسألة ليست هامشية كما يظنها البعض ممن يعتقد أن هذا المفتي أو ذاك إنسان غير معروف، وبالتالي لا يؤخذ بكلامه، أو كما قال البعض هو رأي ديني؛ تبريراً لموقف المفتي، وينسى المكانة الدينية التي يمثلها رجل الدين عند أفراد المجتمع. الجانب الجاد في كلمة السخرية من فتوى معينة، هو أنها بداية المس بالقوة المعنوية للفتوى، وهو الجانب المهم فيها باعتبارها «سلطة» دينية لأفراد المجتمع. وبالتالي فإن التراكم المعرفي من السخرية يعني التحطيم التدريجي لتلك القوة، وهو ما يعرف حالياً بـ «المصداقية»، وبالتالي ربما تفقدها فيما بعد بسبب الممارسات العشوائية للمفتين غير المؤهلين. وأسوأ ما في هذه الفتاوى هو العبث الخطر بوعي جماهير البسطاء؛ لأن ردة فعلهم ستكون عفوية عليه أيضاً. قد يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: من نلوم في هذه الحالة؟ أنلوم من يلجؤون إلى المفتين مع أن الحكومات وضعت هيئات تصدر الفتوى لا ينبغي الاستعانة بغيرها، أم نلوم الذين يسعون إلى أن يكونوا في وسائل الإعلام من خلال الفتوى؟ أعتقد أننا ينبغي أن نلوم الطرف الثاني، باعتبارهم أحرص على الدين من أفراد المجتمع الذين يرون في كل رجل دين «ممثلًا للإسلام الصحيح»، على الأقل خلال هذه الفترة الحرجة. أكبر خدمة يقدمها المفتون المتوتِّرون للدين الإسلامي في الوقت الحالي أن يعملوا على تقديم الصورة الصحيحة للدين، باعتبار أنه إذا أحسست أن الدين يدفعك إلى أن تكون متطرفاً في آرائك فعليك أن تراجع قراءتك للدين، لأنك لم تفهمه على نحو صائب. أحياناً نحتاج إلى رفع القداسة عن رجال الدين في كثير مما يقولونه خاصة تلك المتعلقة بما يؤدي إلى تمزيق المجتمع، وأن نتعامل مع ما يطرحونه باعتباره من أعمال البشر، مما يمكن الأخذ به أو مخالفته والرد عليه.