رغم أن الرئيس المصري، في خطابه أول من أمس، بدا كرئيس مبتدئ، يشكو "كمواطن مصري" أكثر منه رئيساً مسؤولا، عليه أن يقدم ما يقنع الناس ويضع حلولاً لمشاكل مصر الداخلية والخارجية المتعاظمة، من ارتفاع معدلات الفقر، وتراجع السياحة، وندرة المواد الأساسية، مثل الغاز والوقود _ رغم أن مصر بلد تنتج الغاز وتصدره _ إلى تراجع الحريات العامة، وزيادة المديونية العامة، الى التحدي الذي تضعه أثيوبيا في وجه مصر، بإقامة سد المياه على أراضيها، بما يبشر مصر بشح المياه، إلى استمرار ضعف السلطة المركزية في سيناء، مشاكل لا تحصى، وتصل إلى حد تهديد الأمن القومي ووحدة مصر، بل ووجودها كدولة. ولأن الخطاب جاء بعد بضعة أيام من تظاهرات "التأييد" المتواضعة التي قام بها أنصاره ومؤيدوه من الأخوان وبعض السلفيين، وكمحاولة ثانية، بعد تلك التظاهرات، "لفرملة الزخم" المتوقع أن تحدثه التظاهرات المطالبة بتنحيه وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة في مصر، والتي ستجري يوم الأحد، فإنه يمكن القول بأن كلا من الخطاب والتظاهرة الإخوانية السابقة، أظهرتا بشكل واضح ضعف نظام الأخوان وتفوق المعارضة، وان حسم أمر النظام الحالي، بعد عام على إقامته بات رهنا بما سيقوم به الجيش من إجراءات، تشي الإشارات الأولى الى أنه سيكون مسؤولا، وسيقدم مصلحة مصر القومية على مصلحة النظام، كما فعل مطلع العام 2011 حين حمى الشعب، وفتح الطريق لنجاح ثورة 25 يناير في إسقاط نظام مبارك .كل الوقائع على الأرض أكدت خلال عامين مضيا، أن الأخوان في مصر، الذين تصدروا انتخابات مجلس الشعب، ومن ثم فازوا بالرئاسة عبر مرسي، جاؤوا لإعادة إنتاج نظام دكتاتوري جديد، يقوم بتظهير نظام حكم الفرد، بشكل أعمق مما كان في السابق، لأنه سيكون أقرب الى النظام الشمولي، مستندا الى حزب حاكم، والى أسلمة المجتمع، بعد أسلمة الدولة، حتى يستبد هذا الحكم الجديد، وقد ظهر ذلك واضحا في كيفية إعداد الدستور الجديد، وفي كيفية التعامل مع حرية الإعلام، ومع حرية التظاهر ومع المعارضة، حيث اندفع نظام مرسي، الى الاستناد الى أغلبيته البسيطة المتحققة في الانتخابات السابقة، في ممارسة "الحق" بالتفرد بإدارة البلاد، وفرض نظام الإخوان على الأقلية، رغم ان هذه الأقلية، وبغض النظر عن القول بتزوير انتخابات الرئاسة، إلا انها لم تكن أقلية ضئيلة أو هامشية، فهي بلغت في تلك الانتخابات نحو 48% من الأصوات.لا يشفع لنظام مرسي محاولته توجيه اللوم الى معارضيه، واتهامهم بالفساد، وبالتالي اتهام القضاء نفسه، فمن حق المعارضة دائما أن تعترض، ما دامت تعبر عن معارضتها بشكل سلمي، ولا يجوز لأي نظام منتخب أن يمنع المواطنين من الاعتراض، وليس بينه وبينهم الا القضاء، وحتى المتهم يظل بريئا الى ان تثبت إدانته، وفق المقولة القضائية الفقهية، لكن من الواضح أن مأزق النظام المصري الحاكم، يعود الى سببين رئيسيين _ في نظرنا _ الأول، هو انعدام ثقافة التحالف الجبهوي، أو التقاطع الديمقراطي بين الإخوان وغيرهم من القوى السياسية، فمصر كانت تحتاج الى حكومة وحدة وطنية، ولو ان مرسي، أشرك المعارضة ومكونات المجتمع المصري الأساسية في صياغة الدستور، ولو أنه أقام حكومة توافق وطني، لما وضع الدولة في مثل هذا المأزق، والثاني _ هو ارتكاز نظام الحكم في مصر الى النظام الرئاسي، حيث انه يمكن القول بأن الحل يكمن في إقامة النظام النيابي، الذي كان مفتاحا لتطور الدول، مثال دول شرق ووسط آسيا : اليابان، الهند وباكستان، وكان سببا في حماية الدولة ونموها في تركيا، وحتى أحد أسباب قوة إسرائيل.معظم دول العالم الآن تطبق نظام الحكم البرلماني، وباستثناء الولايات المتحدة والدول الأفريقية، التي تطبق نظام الحكم الرئاسي "الفردي" فإن معظم دول العالم تطبق نظام الحكم البرلماني، ربما يكون في تجربة حكم محمد مرسي في مصر، درس لمصر وللدول العربية التي تبحث عن ذاتها في عالم اليوم، أن تتجه الى هذا الشكل من نظام الحكم، وتختصر على نفسها العذابات المحتملة من محاولة تغيير الحكام دون جدوى، وقد كان يمكن ان تذهب مصر بالذات الى مجرد الانقلاب في الحكم، لولا حيوية الشعب المصري، الذي يؤكد بحراكه المستمر منذ مطلع العام 2011 والذي لم يتوقف، على انه شعب عظيم، يعيش في قلب الحدث الكوني، ويدرك جيدا أن عليه أن يدفع ثمنا باهظا، حتى يضع نفسه كشعب فاعل في عالم اختفت فيه الحواجز بين الدول والشعوب.بقي أن نقول أنه يمكن تقليل الخسائر، إن تدارك الأخوان الأمر وسارعوا للموافقة على إقامة مجلس رئاسي مؤقت إلى حين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ومن اجل هذا عليهم ان يقتنعوا تماما، بأن مصر _ لاعتبارات داخلية وإقليمية _ لا يمكنها ان تكون دولة دينية، ولا دولة الحزب الواحد، وسبق لها أن أقامت دولة مذهبية فاطمية، لكن سرعان ما طواها التاريخ بين دفاته، كما سيفعل مع دولة الإخوان القائمة الآن! Rajab22@hotmail.com