تستعر الفتنة الطائفية بشكل خطير وتزداد حدتها في المنطقة العربية مهددة ما تبقى من مقدرات الأمة، وما حققته الثورات العربية من قليل الانجازات سيما بعد التفاف إسرائيل والغرب بزعامة رأس الشر -الولايات المتحدة الأمريكية- على هذه الثورات ومحاصرتها بعد فشل أجهزتها الاستخباراتية بالتنبؤ بحدوثها. إن ازدياد حدة الشحن المذهبي في الدول العربية يهدد النسيج المجتمعي برمته، ويدفع المنطقة بأسرها إلى حالة من الانقسام والاقتتال الداخلي الذي من الصعب السيطرة عليه، خاصة أنه مدعوم من قوى معادية لوحدة الأمة العربية سواء من داخل البيت العربي أو البيت الصهيو غربي، وبمباركة مقصودة أو غير مقصودة من فتاوي الفتنة التي كانت الأساس الذي ساهم في تأجيج الصراع المذهبي.لقد تم توظيف المذهبية المقيتة باحتراف سياسي خدمة للمصالح الصهيو أمريكية وفي مقدمتها الالتفاف على الثورات العربية، وغض الطرف عن تصدير هذه الثورات إلى الدول العربية الأخرى التي تمتلك من الأنظمة الدكتاتورية ما تزيد قمعاً وتفريطاً بحقوق شعوبها من الأنظمة العربية الغابرة التي أسقطتها هذه الشعوب الثائرة. إن الشعوب العربية التي واجهت الاستعمار في القرن الماضي، هي نفسها التي ثارت ضد أنظمتها القمعية المستبدة، فالمعادلة واضحة شعب في مقابل مستعمر تارة وحاكم مستبد تارة أخرى، والشعب لا يعني طائفة بعينها بل نسيج متكامل يضم بين مكنوناته كل أفراد المجتمع بمعزل عن معتقداتهم. فالشعوب العربية التي ثارت على حكامها الطواغيت لم يكن معتقد أو مذهب الحاكم هو الدافع، بل ظلمه واستبداده وإهداره للحقوق. تتجه المنطقة العربية في هذه المرحلة أكثر من أي وقت مضى وفي خطوات متسارعة نحو المزيد من التمزق والتشرذم، في ظل تصاعد وتيرة العنف التي يذكيها التعصب المذهبي، وخير دليل على ذلك إضفاء الصفة المذهبية على القتال في سوريا، وزيادة حدة التوترات الطائفية في لبنان، وكذلك التوترات المذهبية في اليمن والعراق الذي يعج بالفتنة الطائفية، وغيرها من دول المنطقة. لكن أكثر ما يحزننا هو وصول نار الفتنة إلى مصر التي كانت دوماً بعيداً عن الصراعات المذهبية، فالفاطميون وهم من الشيعة الإسماعيلية حكموا مصر أكثر من مئة عام، وكذلك كانت هناك علاقات عبر العصور بين مصر وإيران وهم من الشيعة الإثنى عشرية، فلم يذكر التاريخ أن ذلك أدى إلى انتشار التشيع بين المصريين أو حدث تناحر بين الأشقاء المصريين على خلفية مذهبية. لكن تأجيج المذهبية في مصر سيما بعد الثورة ليس وليد اللحظة أو من تبعات الثورة، بل هو وليد تخلف فكري متعصب استغلته القوى المعادية للثورات العربية من الأنظمة الغربية والعربية، فما حصل مؤخراً من قتل أربعة مواطنين مصريين شيعة في أبو النمرس والتمثيل بجثثهم وحرق منازلهم، لهو غريب وبعيد عن أخلاق الشعب المصري الذي عرف عنه تسامحه وتقبله الآخر.هذه الأفعال الإجرامية وغيرها التي يشهدها العالم العربي تأتي في إطار تأجيج الصراع المذهبي الذي يساهم فيه بعض من يطلق عليهم علماء المسلمين، الذين كان المتوقع منهم أن يساهموا إيجاباً في التأكيد على التقريب بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم لا العمل الدؤوب على تسعير الخلاف والفرقة، سيما مع وجود مساحة عريضة ممكن الالتقاء من خلالها واستغلالها كرافعة للوحدة. وهناك أعلام من علماء المسلمين يريدون الخير بالأمة قد أكدوا كثيراً على عناصر الاتفاق، وهي كثيرة بين السنة والشيعة بما يمكن معها المضي قدماً على صعيد الوحدة، ومن هؤلاء فتوى العلامة السني وشيخ الأزهر الراحل محمود شلتوت والتي تعد أساساً لدعوة التقريب، باعتبار الشيعة الإثني عشرية مذهباً إسلامياً يجوز التقرب به إلي الله تعالي، والتي تنص علي "أن الإسلام لا يوجب علي أحد من أتباعه اتباع مذهب معين، بل إن لكل مسلم الحق في أن يقلد أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ينقله إلي غيره - أي مذهب كان - ولا حرج عليه في شيء من ذلك"، وأضاف "أن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة". كما أن العلامة الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله وفي سياق تأكيده على مساحة الاتفاق بين السنة والشيعة، أفتى عام 2007 بتحريم سب الصحابة وأمهات المؤمنين، خاصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وأفتى أيضاً بتحريم ما يفعله بعض الشيعة من ضرب الجسد وإسالة الدماء في ذكرى مقتل الحسين عليه السلام في عاشوراء. كما أنكر ما شاع لدى الكثيرين من الشيعة حول اتهام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالاعتداء على السيدة فاطمة الزهراء ومحاصرة بيتها وحرقه وتكسير أحد أضلاعها، وهو أمر أثار عليه بعض العداوات من متطرفي الشيعة أنفسهم ليصفوه بالكفر.هذا ويوجد العشرات من علماء المسلمين باختلاف مذاهبهم من أصحاب الفكر المستنير ودعاة الوحدة، الذين بذلوا ولا يزلوا الكثير من جهدهم وألفوا عشرات الكتب، التي بمجملها تبرز مساحة الاتفاق بين السنة والشيعة وهي كثيرة ومن الممكن البناء عليها للتقريب بين أهل المذاهب. إذاً هي دعوة للتقارب باتحاد المسلمين حول الأصول المتفق عليها، والتفاهم حول ما هو ليس شرطاً من شروط الإيمان، ولا ركناً من أركان الإسلام، ولا إنكاراً لما هو معلوم من الدين بالضرورة، كما أنها ليست دعوة إلى أن يترك السني أو الشيعي مذهبه أو يتم إلغاء المذاهب أو إدماجها.لكن واقع الحال اليوم في الدول العربية يشير إلى غلبة التعصب المذهبي والتوظيف السياسي البغيض له، وإن لم يتم تدارك الأمر وتفويت الفرصة على المتآمرين، فإن الصراعات الطائفية ستدمر ما تبقى من مقدرات الأمة. وهذا يدفع في تجاه التأكيد على ضرورة تحمل الساسة الأحرار وعلماء المسلمين العقلاء والمثقفين وكل الغيورين على مصالح الأمة، مسؤولياتهم تجاه أمتهم ويركزوا على كل ما يوحد ويبتعدوا عن كل ما يفرق ويدفع بالأمة إلى نفق مظلم لا نهاية له. كما يقع عليهم مسؤولية العمل الجاد على نشر ثقافة التسامح والحوار وقبول الآخر بين أبناء الأمة، والابتعاد عن التعصب الذي يعد المدخل الأساسي لكل شر. وهناك دعوة خاصة لعامة المسلمين ألا يقدسوا علماء الدين ويرفعوا من مكانتهم لدرجة العصمة، فالعالم مهما علا شأنه وعلمه هو إنسان معرض للخطأ والصواب، وعلينا أن نفكر بعقلانية ونمحص بالفتاوي قبل أن نتخذ منها منهاج حياة وهي خاطئة، فتودي بنا وبالمجتمع إلى الهاوية. إذاً هي دعوة للابتعاد عن التعصب وعدم التقليد الأعمى ولإعمال العقل، لقوله صلي الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا".