تردّت علاقاتُ «الإخوان» المصريين بالقرضاوي منذ عام 2009. ففي النصف الأول من ذلك العام، شنَّ القرضاوي حملةً على «الشيعة»، وخصَّ إيران بالهجوم لأنها تنشر التشيع في مصر وسوريا ولبنان وبلدان أخرى. كما أن الإيرانيين يظلمون أهل السنة في عربستان والبلوش على الحدود مع أفغانستان وباكستان. وفوجئ «الإخوان» بالحملة لأنهم كانوا قد أقاموا منذ أكثر من عقد علاقات خاصة بإيران بحجتين: مصارعة نظام «مبارك»، ودعم المقاومة في فلسطين («حماس» و«الجهاد الإسلامي») وفي لبنان («حزب الله»). وهكذا انصرفوا عبر عدد من أنصارهم وكتابهم للحملة على القرضاوي و«إساءته» للعلاقات بين المسلمين. وما تردد القرضاوي في الرد على تلك الحملة، معتبراً الذين كتبوا ضده وخرجوا على التلفزيونات أبواقاً لمجموعة أو مجموعات معروفة. وبعضُ هؤلاء- كما قال القرضاوي- ذوو نية حسنة، وهو مستعد لتزويدهم بالوثائق التي تثبت ما يقوله، لكن بعضهم الآخر متحزبون لإيران على حساب دينهم واستقرار مجتمعاتهم. وقد ازداد موقف «الإخوان» حراجة عندما كشفت الأجهزة المصرية تنظيماً يقوده «حزب الله» بداخل مصر، وفيه لبنانيون وأعضاء في «حماس». وقد اضطر «نصرالله» عندما قبضوا على مندوبه في مصر أن يخرج إلى العلن ويقول إن التنظيم الذي أقامه كان هدفه ولا يزال دعم غزة وسط الحرب (2008-2009)، وتحت الحصار. لكن التحقيقات أثبتت أن التنظيم كان ينظر أيضاً في ضرب بواخر إسرائيلية وأميركية في قناة السويس! بيد أن حرج «الإخوان» ما استمر طويلاً، فقد قام حليفهم الدكتور محمد سليم العوا بالدفاع عن المتهمين، مشبهاً دعمهم لغزة بدعم عبدالناصر لثوار الجزائر! أما فهمي هويدي، الكاتب الإسلامي المعروف، فقد اتهم القرضاوي بالافتراء وضيق الأفق، ورأى في موقف الحكومة المصرية من «التنظيم» استسلاماً لإسرائيل وأميركا: فإما أن تدعموا غزة ومقاتليها، أو تسمحوا للآخرين بدعمهم! نشأ القرضاوي في «الإخوان المسلمين» بمصر، وغادرها عام 1962 إلى الخليج دون أن يتعرض للاعتقال. وقد انصرف في مؤلفاته إبان الهجرة وبعدها إلى تطوير مقولة «النظام الإسلامي»، داخلاً بذلك في غمار أفكار «الإخوان» الذين غادرهم في أواخر السبعينيات تنظيمياً دون أن تنقطع علاقاتُه بهم. وقد انضم في الثمانينيات إلى تيار المُرشِّدين للصحوة، ونقد أفكار سيد قطب التي ما انتقدها «الإخوان» مباشرةً. وقد ناقشتُهُ بحدة إلى جانب الشيخ محمد مهدي شمس الدين في أواخر الثمانينيات، بشأن الولاية، وهل هي للأمة أم للشريعة؟ وقد كانت وجهةُ نظره أن المرجعية العليا للشريعة، وأن رأي الأمة في الانتخابات كاشف لمقاصد الله عزوجل، وليس منشئاً للحكم. وقد بدا لي أحياناً في الثمانينيات والتسعينيات (هو وأحمد كمال أبو المجد)، أكثر اعتدالاً من طارق البشري، ومحمد سليم العوا. وقد قال لي مرةً إن «الإخوان» دخلوا في التطرف سراً بعد مرشدية عمر التلمساني! لكن علينا أن لا نتجاهل الدور الكبير الذي أداه في التمهيد للتيار الإسلامي وقابليته للسلطة، بدلاً من الحكومات الفاسدة، ومن الجهاديين المجانين! ما اختلف القرضاوي إذن مع «الإخوان»، وإن لم يعد يعتبر نفسه ملتزماً بحزبياتهم ومواقفهم. وبسبب صعود مراتبه ومواقعه في دولة قطر، فقد اجتذب إليه عشرات من الشبان والكهول الإسلاميين، المصريين وغيرهم، في الجامعة وعدة مؤسسات. ومن هؤلاء راشد الغنوشي الذي دعمه في منفاه بلندن. وبذلك فقد شكل احتياطياً كبيراً للإسلاميين العرب جميعاً. وبالإضافة إلى كتبه ذات التأثير، وعلاقاته الممتدة، فقد قام بأمرين اثنين أفاد منهما «الإخوان» كثيراً: «المجلس الأوروبي للإفتاء»، و«الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين». فبسبب قُدُراتهم التنظيمية، في مصر والخارج، استطاعوا التأثير في هذين الجسمين، وهم الذين أدخلوا الإيرانيين فيهما بموافقة القرضاوي طبعاً. والطريف أن الأكبر بعد القرضاوي في الاتحاد كان الشيخ محمد علي التسخيري مندوب إيران، وما كان هناك اهتمام بارز بإدخال الشيعة العرب أو مرجعياتهم الدينية. أما الأمين العام للاتحاد فقد كان حتى عام 2010 العوا الذي أقام علاقات خاصةً بإيران هو وهويدي منذ الثمانينيات. اشتبك القرضاوي إذن بمفرده مع الإيرانيين عام 2009 احتجاجاً على تشييع العرب. وحمل عليه «الإخوان» حملاتٍ شعواء، وأنكروا أن يكون شيء من ذلك قد حصل. بيد أن القرضاوي تجنب المساس بـ«حزب الله» وقتَها أو بـ«حماس» (رغم علائقهما المتشابكة بإيران)، لأنهما تنظيما مقاومة. وقد قلتُ له مرةً: هناك مشكلة في التشييع المذهبي، لأنه ينشر الانقسام في المجتمعات؛ لكننا نستطيع مقاومته بالدعوة على شاكلة ما يقومون به. أما الأخطر فهو «التشيع السياسي» الذي اجتذب كثيرين من شبان السنة العاطفيين، ولا ينبغي الاغترار بأنها موجة عاطفية. لكنه كان متأثراً بالتخاذُل العربي حيال فلسطين، وقال إنه شيخ معني بالدرجة الأولى بالدفاع عن الدين ومذهب أهل السنة الذي يتعرض لتحديات كبرى من التشيع الإيراني، ومن الغرب الصليبي! وما تزحزح عن هذا الموقف حتى بعد انكشاف التنظيم بمصر، فالعلة بحسب رأيه هي في موقف «مبارك» المتخاذل! وقد عرفنا في الأسبوعين الأخيرين أن علماء السعودية تجادلوا معه بشأن «حزب الله» بعد احتلال بيروت، وظهور الحوثيين باليمن. ويبدو أنه كان يدعوهم إلى الدخول معه في «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، وكانوا يخبرونه بأنهم يُجلُّون آراءه وتوجهاته، لكنهم يلاحظون أن الإيرانيين يخالفون النظام الداخلي للاتحاد نفسه بنشر التشيع، وبإنشاء التنظيمات المسلحة في المجتمعات السنية. ثم ثار على التشييع كما سبق القول، لكنه لم يثُر على «حزب الله» إلا بعد سنتين وعدة أشهر على الثورة السورية. لقد تأثّر القرضاوي كثيراً بما حصل في القصير، وحمل على النصيرية والشيعة وإيران في السياق نفسه. وذكر للمرة الأولى أن علماء السعودية دأبوا على تنبيهه وتحذيره في السنوات الماضية، وكان لا يقتنع بما يقولونه حتى انكشف الستار عن وجه «حزب الله» باعتباره تنظيماً طائفياً إيرانياً! قاطع «الإخوان» القرضاوي بسبب هجمته على التشييع الإيراني. لكنهم احتاجوا إليه في مصر وتونس بعد قيام الثورات التي لم يشاركوا في بداياتها. ولذلك فقد استجاب لنداءات الإسلاميين ومضى للخطابة في ميدان التحرير في الأسبوع الثاني للثورة. وما شارك كثيراً في أحداث مصر وتونس بعد ذلك. إنما من المعروف أنه مع «الحكم الإسلامي». لكنه بدأ قبل عام بالشكوى من موقف مرسي و«الإخوان» من الثورة السورية. وكان معروفاً أن «الإخوان» والإيرانيين يتبادلون الزيارات بكثافة. وقدّم مرسي اقتراحاً غريباً قبل عام هو اللجنة الرباعية التي أَدخل فيها إيران إلى جانب تركيا والسعودية ومصر لحل الأزمة. وقال مستشاره السياسي (عصام الحداد) الذي مضى مرات إلى إيران إن القاهرة متفقة مع طهران على الحل في سوريا! وهو الكلام نفسه الذي قاله مرسي لبوتين! لقد أثار ذلك كله قلق القرضاوي، واشتدت ضغوطه على «الإخوان» لاتخاذ موقف، ومضى يوم الثلاثاء الماضي إلى مصر لإقامة مهرجانات لدعم الثورة السورية. ويبدو أن «الإخوان» مضطرون للخروج عن صمتهم، والذهاب إلى المهرجانات، هذا بالإضافة إلى اجتماع لهيئة كبار العلماء بالأزهر (والقرضاوي عضو فيها) لاتخاذ موقف مما يحدث في سوريا. هل تتدخل مصر الإخوانية وغير الإخوانية لدعم الشعب السوري؟ قد يحصل ذلك الآن، لكنه سوف يكون متأخراً جداً!