اينما كانو يضيق الناس ذرعا من الدولة، وما يعتبرونه تجاوزا او تعديا من قبل سلطتها الطاغية او المتفردة على حرياتهم الشخصية. وان كانو في بلد كلبنان يطالبون الدولة ان تمارس هيبتها وصلاحيتها، اي ان تتماهى مع دورها وغريزتها وشخصيتها في وجه ما يعتبرونه فوضى وفلتان بعض المجموعات المسلحة وتعدياتها على القوانين وحتى على الدولة نفسها. وان كنا نحن الفلسطينيين كذالك نناضل من اجل الحصول على هذا الامتياز بأن يكون لنا هذه الدولة أسوة بباقي الشعوب والامم، حتى ولو من اجل ان نبدي هذا النوع من الترف بمعارضتها كما قال لي محمود درويش ذات مرة بعد عودتنا الى الوطن. وقال فيصل الحسيني كلاما وموقفا مشابها نريد الحصول عليها اولا والدخول من عتبتها لكي لا نستطيع بعد ذلك تجاوزها . اذا كانت الدولة في ظل الثورة المعلوماتية والاتصالات قد بدأ يتجاوزها الزمن.واينما كانوا، فأن الناس بحسب طباعهم يميلون الى رفض الانقياد او ان يحكموا من قبل ما يمكن ان نسميه الحزب القائد او الاوحد , كما من لدن (الرجل الواحد) حتى وان كانو بغريزتهم كما يلاحظ مكيافيلي مستعبدون للقوة , اي منقادون بغريزتهم لطاعة القوي. ولعل المثال الابرز هنا هو الاتحاد السوفيتي وروسيا التي حكمها الحزب الشيوعي منفردا لمدة سبعين عاما , لكنها انتهت اي تجربة الحزب الواحد الى انهيار الاتحاد السوفييتي . وهو نفس المصير الذي انتهت اليه تجربة الحزب الاوحد او القائد الذي الذي يحتكر السلطة والحياة السياسية في كل من العراق وسورية. وفي حالة العراق عبر غزو خارجي مدعوم بمعارضة في الداخل قوية، وفي الحالة السورية بثورة بدأت بالمطالبة بالاصلاحات ثم انتهت الى حرب مسلحة بدعم من الخارج . وحتى عبد الناصر فأنه واجه معارضة طوال الوقت من قبل الاخوان المسلمين والشيوعيين على حد سواء وكان عليه ان يجد في الفترة الاخيرة صيغة ما لاشراك قدر اكبر من الشرائح الاجتماعية والنخباوية في الحياة السياسية.وفي روايته الشهيرة 1984 يصور جورج اوريل بسخرية لاذعة هذه العلاقة بين الحزب الاوحد الحاكم والشعب مطلقا على هذا الحزب الاوحد ( الاخ الكبير ) الذي يظل طوال الوقت يمارس رقابته البوليسية والسرية على الشعب , وبحيث لا يكون مفر بالاخير لأدامة سيطرة (الاخ الكبير) غير اللجوء الى وسائل القمع السرية وغير التقليدية كما القمع البوليسي الفظ والمباشر.هل ضاقوا ذرعا اذن من سيطرة الرجل الاوحد حتى ولو كان هذا الاوحد بضخامة البنية الجسدية لرجب طيب اردوغان , وضخامة انجازاته واعماله كما الكاريزما الشخصية التي يملكها ؟ مثلما هو الحال اليوم في ساحة (تقسيم) في ثورة الاتراك على اردوغان . ولماذا ننسى مأساة مقتل يوليوس قيصر التي خلدها في واحدة من مسرحياته الشهيرة , وليام شكسبير حينما افزع النخبة الارستقراطية الرومانية تحول يوليوس قيصر الى طاغية ودكتاتور او الى اله , بعد سلسلة من الانتصارات العسكرية الباهرة التي حققها , فخافوا من انقضاضه على التقاليد الجمهورية وانقلابه عليها فقرروا تدبير مؤامرة لقتله . وحيث يصار غالبا الى التذمر منهم او الانقلاب عليهم وهم في اوج قوتهم وعظمة انجازاتهم.فهل يعكس ذلك غريزة الحسد، حسد القوة الدفين في اشد اعماق النفس الانسانية ظلاما، اي الشعور الفطري بحسد القوة؟ وحيث الناس وان كانوا بطباعهم ينقادون للقوة ومعجبين بها الى انهم وفي تناقض اشكالي , يعكس احد جوانب تعقيدات السلوك البشري وتقلبات امزجته , فانهم يواصلون اضمار الشعور بالحسد ازاء هذه القوة وفي اقرب فرصة لاظهار ذالك لا يترددون في التعبير عن مشاعرهم.هيا نفهم اذن في خلفية هذه الدوافع لاظهار وابداء التذمر، الرغبات الحقيقية ولكن المكبوتة في اوساط النخبة لان يكونوا شركاء او فاعلون مؤثرين ومعترف بهم في الحياة السياسية كما التأثير على صناعة القرارات . وباختصار رفض تهميشهم او اقصائهم , باستئثار الاخ الكبير فقط بالسلطة . لكن هل هذا الشعور يعكس واقعا في الحياة السياسية الفلسطينية ؟ ويمكن على ضوءه تفسير بعض جوانب التذمر في الساحة الفلسطينية المنقسمة على نفسها بين الاخوين الكبيرين، وحيث ننفرد نحن الفلسطينيين في تجربة غير مسبوقة بامتلاك سلطتين ودولتين وحكومتين واخوين كبيرين . وحيث الاخوين الكبيرين يلعبان في هذه الحالة دورا مزدوج هما السلطة والمعارضة في الوقت نفسه . وحيث هذا الشكل غير السوي والمتناقض الاشكالي على وجه ادق يفرز في كل مرة على السطح لتقيحاته المتبادلة في نماذج متكررة من التعديات الفجة.وحده ياسر عرفات استطاع ان يتفوق على الانقسامات او الخلافات الايدلوجية والسياسية , وان يصهر هذه التناقضات في نظام سياسي وسلطوي يبتعد عن صورة الحزب الاوحد الحاكم (الاخ الاكبر ) . والمسالة واضحة لقد كان هو الاب ونظامه كان بطرياركيا وحيث السلطة تقوم هنا على قاعدة التوازن الفصائلي كما الجهوي وحتى العائلي وبين الداخل والخارج . كما لو انها حسبة يجري قياسها على مسطرة دقيقة او وفق القياس الرياضي . تنسيق ابعادها بعقل مهندس او فنان , وهو كان بالاصل مهندسا وحيث ثمة علاقة بين الهندسة وفن النحت.هنا لسنا مع نظام عرفات في حالة من استدعاء او ممارسة الاقصاء والتهميش , حتى لاشد الخصوم والمعارضين . وانما بأزاء لعبة من نوع اّخر تقوم اساسا على قاعدة الاحتواء والاستيعاب او الدمج . وهذه السياسة وان كانت في الممارسة العملية لا تستبعد الضغوظ , بل واللجوء ايضا الى الحيل الماكرة , لتفكيك هؤلاء الخصوم او المعارضين . ولكن هذه المناورات الماهرة التي لا يجيدها سوى عرفات , انما كانت تهدف بالاساس الى تحقيق هذا الدمج والاحتواء، وهي المناورات التي كانت تظهر عرفات احيانا كصياد ماهر قادر على اجتذاب هؤلاء المعارضين . لكيما يستطيع القول امام العالم والفلسطينيين على حد سواء ان حكومته وسلطته تمثل الجميع , بتصويرها كحديقة زاخرة بالتنوع والالوان تتسع للجميع , على طريقة دع مائة زهرة تتفتح في البستان.وهكذا نفهم الاّن ان غياب هذا المفهوم الابوي المؤطر للسلطة، وغياب صاحب هذا المفهوم , هو الذي يفسر الاّن الانهيار الذي حدث للنظام الفلسطيني القديم وصعوبة اعادة تأسيس نظام جديد بنفس الطريقة . اذا كان ما يبدو امامنا هو نظام جديد نقيض تماما عن نظام عرفات القديم . واذا كان مابعد انزياح او زوال او غياب النظام الابوي البطرياركي القديم يأتي نظام الابناء، او الاخوة كارمازوف . اي ولادة نظام جديد ولكن هجين يمكن تسميته بذي الرأسين , او ثنائية القطبية المغلقة . فما بعد النظام الابوي يأتي التفسخ والانقسام والتفكك , او النموذج الفلسطيني لعدوى مرحلة الفوضى الخلاقة الانتقالية , وحيث لا يخفون في حماس هنا انهم كانو باكورة هذا الربيع العربي الجديد قبل ستة اعوام في 14حزيران الذي تمر ذكراها هذه الايام .ويسمى الرئيس ابو مازن وهذا الرجل هو الصدى او الظل الاخير للحقبة الابوية , الحكومة الجديدة التي شكلها رامي الحمد الله بان هذه الحكومة هي حكومتي . وتقول حماس في غزة ان حكومتها المقالة هي الحكومة الوحيدة الشرعية حتى التوصل الى اتفاق على تشكيل حكومة توافقية . وهذا هو بيت القصيد في المفهوم المؤطر للحكومة وللنظام السياسي ككل . التوافقية القائمة على الشراكة ولكن التي تخفي صراعا مستتر على تقاسم السلطة وهو صراع يبدو في جانب منه كما نقاشنا هنا حول النظام السياسي الفلسطيني , يعكس نوعا من الترف السياسي او الثرثرة الفارغة , اذا كان هذا الصراع يتحول الى غير ذي صلة بالواقع , بل وانفصال عن الواقع في الوقت الذي تهدد الاجراءات الاسرائيلية على الارض كل يوم يمر , بسحب هذا الواقع او البساط من تحت اقدام الاخوة الاعداء الفلسطينيين انفسهم .بيد انه من المقلب الاّخر قد يبدو هذا الترف بابداء التذمر والنقاش كنوع من قبيل الثقة بالنفس او امتلاك اليقين , من انتفاء القلق او الخوف الباطني في العقل الجمعي الفلسطيني على البقاء والوجود . وربما صح ذالك وصح معه ان هذا الجدل الداخلي انما هو الذي يمنحهم هذا الشعور او الدلالة الاقوى على التصاقهم او ارتباطهم الوثيق بالواقع . وبأن ما تفعله اسرائيل على محور هذا اليقين والزمن في وعي الفلسطينيين , ليس سوى هباءً منثورا.