الاسم اسم واحد وأوصاف الاسم عديدة. السيف سيف وأوصاف السيف (والصحراء، والغيم، والثعلب..الخ) عديدة. ولله وحده أسماء حُسنى وصفات أيضاً!.. والموت اسم، ومن صفاته "حق"، وما لا تتعلمونه من صفات الاسم في القواميس أتعلمه من شبكة الكلمات المتقاطعة آخر ما اقرأ قبل أن يحملني الوسن الى النوم. الموت ثلاثة أحرف و"حق" حرفان!الاسم اسم وأوصاف الاسم عديدة، والنوم نوم وله أوصافه، والحلم حلم وله صفاته .. والموت اسم وله صفات منها "الحق".صاحبي، صاحب "أبجديات" كتب في مرضه يتساءل: "السرطان مائة نوع؟ ألف نوع، عشرة آلاف.. لا أدري". السرطان هو باختصار برنامج تدمير ذاتي لخلايا الجسد. كم عدد خلايا جسد الإنسان؟ حواس الإنسان خمس (وللبعض حاسة سادسة .. لعلها الرؤيا؟).حسناً، السرطان اسم، وله صفات ربما منها "الخبيث"، وسأضيف له صفة هي "النهّاش" كأن له، معاً، اسلحة الحيوانات آكلة اللحوم، من ناب ومخلب وحتى من منقار بغاث الطير المعكوف (النسر والصقر .. والغراب ايضاً.. الخ).هذا "النهاش" الغاشم، الغبي، اختار أن يهاجم علي الخليلي في عموده الفقري، لا من رئتيه وهو المدخن النهم. لي أصدقاء مدخنون بدأ "النهاش" هجومه من الرأس، وصديقات غير مدخنات بدأ "النهاش" هجومه من الرئتين، او من الثدي، او ضرب "النهاش" هذا الأحمر، القاني المالح، الذي يسري في العروق والشرايين والأوردة.أجهز "النهاش" على رأس صديقي طلال همداني وسخر "النهاش" من سخرية صديقي ممدوح عدوان: "يقولون إنه مرض خبيث لكنني سأهزمه.. أنا أخبث منه"، وكانت للمسرحي سعد الله ونوس سخريته اللاذعة من النهاش والحياة ومن الموت، ومن أصحاب الخلود في "دار البقاء".* * *أمس، علمت ان "النهاش" في جسد علي الخليلي استشرى الى الدماغ، وأمس سألت غازي الخليلي فعرفت ما لم اكن اعرف: إنه شقيقه، وأنا اعرف علي معرفة غريبة: دائماً استوقفه او يستوقفني في الشارع، وأسأله ويسألني على الواقف .. مرة واحدة جلسنا الى طاولة، ومرة واحدة وأخيرة زرته في بيته على سرير المرض، بعد ان بدأ "النهاش" ينهش من خلايا جسمه ويدخن غولواز .. وثلاث مرات عادت "أبجديات" في الأيام الى طلتها الأسبوعية بعد المرض، ثم توارت الى الأبد: "الشجر إذا تنفس"، "أنا والسرطان"، "عيادة وزيارة" والأولى عن نوار اللوز في حديقته (نفس أول الربيع الذي لا يراه من سريره) والأخيرة عن زيارتي الأولى والاخيرة له في بيته على سرير مرضه، وهذه مؤرخة في ٢٨ كانون الثاني، ورددت التحية له في عمودي "يقولون، في لغة البشر، جاد بأنفاسه الأخيرة، ويضربون الوليد على كتفه، احياناً، ليبدأ هذا الشهيق والزفير، ومعه يبدأ هذا الاحتراق البطيء .. الى ان يجود البشريّ بأنفاسه الأخيرة" .. من صرخة الحياة الى شهقة الموت.علي الخليلي يجود، في غيبوبة التلاشي، بأنفاسه قبل الأخيرة. لن يقرأ ما أكتبه عنه، كما قرأ ضحية "نهاش" آخر، حسين البرغوثي، رثائي المسبق، فقال: "فيه حبّ وصدقيّة عالية"، ولي مع حسين جلسات في المقاهي وزيارات الى بيته وزيارة اخيرة الى بيتي، وقراءات لما يكتب .. ووصية: ألتقيكم بين أشجار اللوز (نوّر اللوز رأيت الله".أصحاب الديانات (السماوية خصوصاً) يلحدون موتاهم "من التراب والى التراب" وأصحاب ديانات غير سماوية يعيدون الحياة الفانية الى عنصريها: النار (التي خلقت الكون بالانفجار الأعظم) والماء في نهر الغانج الذي هو دم الحياة .. وهناك بعض قبائل الهنود الحمر التي ترفع جسد الميت على هرم خشبي ليتولى الطير، ذو المنقار المعكوف رحلة الروح الى السماء.تعددت الأسباب والموت واحد (حق)، وتتعدد أساليب الدفن بعد غياب الروح عن الجسد، وتتعدد ضربات "النهاش" في جسد الإنسان، ولم ينجح الأطباء والعلماء بعد في صدّ برنامج التدمير الذاتي للخلايا، للجسد .. لحياة الإنسان.* * *كان علي يشكو لي من قلبه، وكنت أشكو عليه من إسرافه في التدخين.. وكان للنهاش الخبيث، الغدار ان يضرب، اولاً، عموده الفقري، ثم ينتشر رويداً رويداً الى دماغه. للدماغ نشاطه الكهربائي وللقلب ضرباته من الرحم الى..لعلي، له الدواوين، له الكتب، له جائزة تقديرية، وساماً على ما انجز، وليس له ان يطل من نافذة نظرة أخيرة من غرفة مرضه إلى نوار اللوز.لن يتوقف نوار اللوز. لا تتوقف الحياة، اذا سقطت ورقة إنسان عن شجرتها.