خبر : "فتاوى التشبيح" ... والقضاء على التعايش التاريخي ...بقلم: د. خالد الحروب

الإثنين 20 مايو 2013 09:38 ص / بتوقيت القدس +2GMT
"فتاوى التشبيح" ... والقضاء على التعايش التاريخي ...بقلم: د. خالد الحروب



في التاريخ الاسلامي تطورت تقاليد عريقة في طرائق تناول علماء الدين للقضايا والشؤون المُستجدة التي تواجه مجتمعاتهم. تتناول هذه السطور اثنين من تلك التقاليد التي تم القضاء عليها في حقبة التدين المظهري والتلفزيوني التي نشهدها في الوقت الراهن. التقليد الاول هو دراسة الشأن المطروح على الفتوى بأكبر قدر من التأني والحذر والدقة في إصدار الرأي فيه. وهنا نعرف كيف ان العلماء الحقيقيين كانوا ينظرون في الامر المعروض عليهم ويقيسونه زمنا ومكانا وظرفا وشخصا، ويتأملون في انعكاساته وتأثيراته ثم يصدرون رأيهم. ما يصدر من فتوى في شأن من الشؤون يطلبها شخص ما في مكان ما في زمان ما في ظل ظروف محددة قد تختلف تماما حول ذات الشأن إن طلبها شخص آخر، او في مكان آخر، او في زمان آخر، او في ظل ظروف مختلفة. ومُسجل في ادبيات الفتيا ان الشافعي كان قد افتى في العراق بشكل مختلف عن ما افتاه في الشام وحول ذات الشؤون، لأن السياق والظرف يختلفان. مقابل ذلك التأني والحذر وموضعة الفتوى في سياق الزمان والمكان والظرف والسائل ماذا نرى هذه الايام؟ الذي نراه جحافل من ارباع العلماء يحتلون شاشات القنوات الدينية جاهزين "على الهواء" لإطلاق اية فتوى حول اي شأن كان، وفي اي مكان وزمان. كيف يتأتي لحضرة "المفتي التلفزيوني" هذا العلم الديني اللامحدود والذي يؤهله للرد الفوري والمباشر على اي سؤال من اي شخص ويكون ضميره الديني مرتاحاً؟ كان يُؤتى للعالم الحقيقي بالقضية في إطار التقاليد العريقة للفتوى فيطلب الوقت لينظر فيها ويعيد السائل من حيث أتى، فيعكف على المسألة لدراستها وتقليب وجوهها. مفتو اليوم لا يحتاجون "للنظر في المسألة" فعبقرية علمهم الديني تؤهلهم لإطلاق الرأي يمينا وشمالاً وعلى الفور حول اكثر القضايا تعقيداً. مشاهدة اي برنامج من برامج "فتاوى على الهواء" تثير الغثيان بسبب جراءة المفتين التلفزيونيين الذي داسوا تحت اقدامهم كل ما له علاقة بتقاليد الفتوى التاريخية من الدراسة والتأني والحذر. تأتي اسئلة لا تستثني شيئا من السؤال عن ما إن كانت "العولمة حرام ام حلال"، او "امتلاك السلاح النووي حرام ام حلال"، إلى "حل او حرمة مرافقة الابن الوسيم لأمه المنقبة في الشارع" (لأن رؤية الناس لوسامته سوف تشير ضمناً إلى جمال امه!)، إلى "حل او حرمة تويتر وفيسبوك"، إلى "حل اوحرمة شراء تذاكر اليوم الواحد في قطارات المترو في اوروبا، وصولا الى الحكم بإسلام او كفر طوائف وجماعات بأكملها، وإلى كل شيء عملياً! ومع ذلك لا يرمش طرف للمفتين التلفزيونيين ونراهم وبكل ثقة تلفزيونية استعراضية يطلقون فتاواهم من على "شاشات مصانع الفتوى" ومن دون اي تردد. "الفتاوى التلفزيونية" كارثة حقيقية تواجه مجتمعاتنا اليوم، لأنها خليط من تنافس الاستهلاك الديني بين القنوات الفضائية ورأس المال الباحث عن دعايات اكثر في حال تحقيق نسبة مشاهدة اعلى لبرنامج هذا المفتي او ذاك. يتسلل الى وعي المفتي التلفزيوني الهوس التنافسي لتحقيق الظفر والتفوق على غيره من المفتين على الشاشات الاخرى عن طريق التشاوف بامتلاك علم اوسع وقدرة اكبر على الفتوى إزاء كل شيء. اصبحت "مصانع الفتوى" جزءا لا يتجزأ من رأسملة الدين وتحويله إلى وسيلة للربح التلفزيوني السريع.والتقليد التاريخي الثاني الذي تم طحنه في ماكينات الاستهلاك الديني التلفزيوني هو قول "لا ادري" إن أُشكلت القضية على العالم وحار إزاءها جوابا. مثّل هذا التقليد سمة رفيعة عند علماء الدين الحقيقيين الذين كانوا ورغم علمهم العميق يتواضعون امام هذا الشأن الخلافي او المُبهم او ذاك ولا يصدرون فتوى بشأنه. كان ذات العالم الذي يطلب وقتا لينظر في قضية معقدة لا يتوانى في الاعتراف بعدم قدرته على إعطاء رأي جازم فيها ويقول: "لا ادري".  اين هو هذا التقليد العظيم الذي يعكس التواضع والقدرة في ذات الوقت عن كثير من مفتي هذه الايام وعلمائه الذين صار اشتغالهم بالفتوى والدين اقرب إلى "التشبيح" منه إلى اي شيء آخر. لا يدرك "شبيحة المفتين" اليوم ان قاعدة "لا ادري" هي عمليا من حفظ التعايش التاريخي وعلى مدار قرون طويلة في المنطقة والعالم الاسلامي عموماً، ولأنها مرتبطة عضوياً بمنهج متأسس على "لا تسألوا عن اشياء إن تبد لكم تسؤكم".  المعنى العملي والتطبيقي لتوجيه النص القرآني هذا هو ان كثيرا من امور الحياة والشؤون المُستجدة تقع في مناطق رمادية وبعيدا عن ان تُحسم بالفتوى وبـ "الحلال والحرام"، ومن الافضل ان تبقى هناك وكذلك. وهذه المناطق الرمادية كلما بقيت على اتساعها انتعشت المجتمعات وازدهرت، ويشهد التاريخ الاسلامي على ذلك في مراحل تقدم المسلمين وعلوهم. في المناطق الرمادية تشتغل العلوم وتتقدم الثقافة ويتم هضم كل ما هو مُستجد وتطويعه عبر عبقريات الاجتماع الانساني لخدمة الناس من دون اعاقات.  وفي المناطق الرمادية تعيش جماعات المجتمع المختلفة بأنماط تدينها المُتباينة وسلوكياتها المختلفة، وهو ايضا ما شهدت به المراحل التاريخية المختلفة. في المقابل عندما تتآكل المناطق الرمادية ويصبح هوس الافراد ورجال الدين (الشبيحة) مُكرسا على الخروج على منهج "لا تسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم"، ويتحول كل الجهد المصطنع لاختلاق قضايا من لا شيء ندخل في زمن انحطاط وتقهقر.  تبدأ ماكينة الفتوى والتحريم بالقضم التدريجي والمتواصل من المناطق الرمادية وتحاصرها في غياب كلي لقاعدة "لا ادري" والتي هي القاعدة الطبيعية لعدد هائل من المسائل الطارئة والمعقدة والمُبهمة، ولكن رغم تعقيدها وابهامها إلا ان ذلك لا يدفع مفتي الاستعراض التلفزيوني من مواجهتها واصدار الفتوى (التحريمية) بشأنها. نحن الآن نعيش هذه الحالة المريعة من محاصرة المربع الرمادي الوسطي للاجتماع العربي والاسلامي من قبل بلدوزرات الفتوى التحريمية التي تهدم ارضيات ذلك المربع الذي إن انتهى انتهينا معه.Khaled.hroub@yahoo.com