ليس معروفاً عن رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان أنه من النوع الذي يُكثر من التصريحات التي لا معنى لها، أو ممّن يتلاعبون بالألفاظ والكلمات فهو باني تركيا الحديثة الذي استطاع مواجهة العلمانية الأتاتوركية دون أن يضفي على بلاده الهُويّة الإسلامية. هو الرجل الذي نهض بالاقتصاد التركي حتى أصبحت بلاده تحتل مكانة متقدمة بين دول العالم، ويحاول أن يحقق التوازن في مصالح تركيا بين الشرق والغرب. أردوغان من واشنطن أطلق تصريحاً مقتضباً مفاده أن السلام في الشرق الأوسط مرهون بالمصالحة الفلسطينية. هذا التصريح المقتضب ينطوي على أبعاد سياسية مهمة، فمن ناحية يعتقد أردوغان، بأن ثمة مجالا لتحقيق السلام، وأن الجهد الأميركي نحو استئناف المفاوضات يتسم بالجديّة، وأنه لا سبيل أمام الفلسطينيين إلاّ الاستجابة. غير أن التصريح، أيضاً، يشير إلى ضرورة إنجاز المصالحة الفلسطينية، التي تعدّ شرطاً أساسياً لتحقيق السلام ذلك أن الطرف الفلسطيني المفاوض لا يستطيع المضيّ قدماً نحو استئناف المفاوضات في ظل انقسام خطير ومعارضة قوية من قبل "حماس" أساساً وفصائل أخرى. ويحمل التصريح، ايضاً، معنى أن خوض المفاوضات كممر إجباري يحتاج إلى وحدة الموقف الفلسطيني، أو الحدّ الأدنى من هذه الوحدة والسؤال هنا موجّه لحركة "حماس" بالدرجة الأساسية.السيد أردوغان اتخذ مواقف جريئة، في مواجهة العدوانات الإسرائيلية وحصارها على غزة، وفي مواجهة الجريمة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق سفينة "مرمرة" وركابها من الأتراك والمتضامنين الأجانب. وفوق هذا فإن حزب العدالة والتنمية التركي، ينتمي إلى الهُويّة الإسلامية وتحسبه التيارات السياسية الدينية العربية ومنها حركة "حماس" على أنه ينتمي إلى عائلة الإسلام السياسي. وبالتالي فإنه يحظى بالثقة.أردوغان الذي رفض طلب وزير الخارجية الأميركي جون كيري وهو كان طلباً علنياً، بأن لا يذهب إلى قطاع غزة، ولتحقيق التوازن واستدراك التحفظات التي تبديها القيادة الفلسطينية، قرر أن يقوم بزيارة إلى غزة والضفة الغربية، خصوصاً، وأن تركيا لا تزال تحافظ على علاقاتها الرسمية مع منظمة التحرير، ودولة فلسطين.من هذا الموقع تتطلع الولايات المتحدة، إلى أن ينجح السيد أردوغان في الانضمام لكل من قطر ومصر، لإقناع حركة "حماس" بإبداء مرونة سياسية كافية فيما يتعلق بالجهود الرامية لتحقيق السلام. بمعنى آخر فإن هذه المحاولات تتم لاستيعاب حركة "حماس" في إطار الوجهة السياسية الرسمية الفلسطينية. حين نتحدث عن هذه المحاولات علينا أن نتذكر تصريحاً متميزاً للقيادي في "حماس" الدكتور محمود الزهار الذي حذر بعضاً من قيادات الحركة إزاء التعامل مع الثوابت الفلسطينية.الزهار يعلم ما يجري تحت الطاولة، ويدرك أن ثمة اتجاهاً في قيادة الحركة مستعد للتكيُّف، خصوصاً وأن تصريحات خالد مشعل التي نفاها عزت الرشق، قد أحدثت جدلاً وبدت وكأنها تندرج في سياق التحول السياسي عن مواقف الحركة المعروفة والمعلنة.التباين في سياسات "حماس" تتمظهر في شكل إجراءات عملية عدا التصريحات السياسية، ففي حين ينفي البعض نية الحركة أسلمة قطاع غزة، وإقامة إمارة إسلامية فيه، فإن كتلة الإصلاح والتغيير في المجلس التشريعي تواصل مناقشة قوانين تعكس رؤية إسلاموية آخرها قانون التربية والتعليم الذي يدعو إلى التأنيث والفصل بين الجنسين، وقانون العقوبات الذي يقيم الحدّ ويفرض عقوبات تنتمي إلى الشريعة الإسلامية حسب فهم بكيفية تطبيقها.علينا أن نؤمن ونقتنع بأن الولايات المتحدة جادّة في مساعيها لتذليل العقبات التي تعترض إمكانية استئناف المفاوضات، وبغض النظر عمّا إذا كانت هذه المفاوضات ستنتج اتفاق سلام مقبولا أم لا، فات السيد أردوغان أن يصرح بحقيقة أن إسرائيل هي المسؤولة سابقاً والآن عن تعطيل المفاوضات، وإفشال عملية السلام. حركة "حماس" إذاً أمام خيارات صعبة، فهي لا تستطيع مواجهة وصد النصائح والضغوط التي تأتي من أطراف صديقة وحليفة مثل قطر ومصر وتركيا، ولا تستطيع، أيضاً، المغامرة بإجراء تحول سياسي من تبني برنامج المقاومة، ورفض نهج المفاوضات، إلى الانخراط في هذا النهج أو السكوت عليه.أي خيار من هذين الخيارين سيكون مكلفاً جداً للحركة وتجربتها، ولذلك فإن الخيار الوحيد، الذي تتيحه الظروف الحالية، هو خيار المصالحة الفلسطينية، من حيث كونه مخرجاً مناسباً، والخيار الأقل تكلفة، في ضوء المصالحة، وفي إطار النظام السياسي الفلسطيني تستطيع حركة "حماس" أن تتقمّص دور حركة "فتح"، التي تقول إنها لم تغير برنامجها ولم يكن مطلوباً منها أن تعترف بإسرائيل أو أن تلبي شروط "الرباعية" الدولية. هنا قد تواجه حركة "حماس" تناقضاً داخلياً بين أهل السياسة وأهل الدعوة، وبين متطلبات الحفاظ على المكتسبات التي حققتها على الأرض في قطاع غزة، وبين متطلبات التكيف وتقديم أثمان على طاولة المصالحة. لذلك علينا أن نصدق ونؤمن هذه المرة أن اللقاء الأخير الذي وقع في القاهرة بين وفدي "حماس" و"فتح"، يشكل بداية الطريق نحو تنفيذ اتفاقات المصالحة، وان الأشهر الثلاثة التي سيتم خلالها تشكيل حكومة الوفاق، هي، أيضاً، فرصة متاحة لتكيف الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي مع متطلبات استئناف المفاوضات.