مرّت خمسة وستون عاماً على مذياع "أبو سمير" وهو ما زال مفتوحاً يقصّ نشرات الأخبار لجدران البيت، وللورود المزروعة في أصص الفخّار على شرفة المنزل.قصة أبو سمير اللاجئ من عكا هي قصة "المذياع" الصحافية التي كتبها الزميل أنس أبو رحمة، وفازت بمسابقة "حق العودة" لمركز بديل، قبل سنوات، وكنت محكّماً فيها.القصة تروي لجوء أبو سمير مع عائلته في العام 1948 إلى إحدى مخيّمات رام الله.يومها وكغيرها من اللاجئين، خرجت عائلة "أبو سمير" على عَجَل؛ خوفاً على حياتها من العصابات الصهيونية المسلحة من دول العالم الديمقراطي؛ لتُحِلّ شعباً لا يملك محل شعب له الأرض والتاريخ.في طريقه القسري يسأل "أبو سمير" زوجته عن المذياع، فتردّ عليه بأنها نسيت المذياع مفتوحاً.. حينها يردّ الزوج مستنكراً: إن "بطّاريّات" المذياع ستفرغ، لأننا بحاجة على الأقلّ إلى يومين أو ثلاثة أيام حتى نتمكّن من العودة.. وفي هذه الأيام سيظلّ المذياع يقصّ أخباره إلى أثاث المنزل؟!كان أبو سمير يعتقد أن جيوش الإنقاذ العربية، ستصل إلى فلسطين لإعادة التحرير وتخليصها من أيدي العصابات الصهيونية.مرّت 65 عاماً لم تتمكن فيها جيوش الإنقاذ العربية من الوصول... والتي يبدو أنها لن تصل مطلقاً، فلم تعد القضية الفلسطينية هي الأولوية لا للجيوش ولا حتى للأنظمة أو للجماهير.. فهذه السنوات الطويلة غيّرت الوجه العربي، والفكر العربي، والمفهوم العربي، بحيث أصبح مفهوم التحرير مصطلحاً من الماضي.ربما لم تفرغ شحنات البطاريّات، ولكن ربما ارتفع صوت المذياع مستنكراً المرّة تلو الأخرى: لماذا خرجتم؟.. كنتم تخافون على العرض؟.. فما حصل لعرضكم في كثير من الدول التي هُجّرتم إليها؟.. خفتم على الحياة فماذا حصل لمئات الآلاف من أبنائكم وأحفادكم في مذابح فردية وجماعية على مدار هذه السنوات..؟!.أنا، أيضاً، لاجئ من الفالوجة التي سطّر فيها الجيش المصري بقيادة الزعيم الراحل عبد الناصر مفخرةً رغم فساد العتاد وقلته.في مثل هذه الأيام قبل 65 عاماً شُرِّدت العائلة إلى عدة دول ومناطق، منها من استقرّ في الضفة الغربية، وبعضها في قطاع غزة وآخرون ذهبوا إلى معظم الدول العربية التي أينما ذهبت تجد أبناء العائلة فيها، ومنهم من قرّر أن يبتعد عن كل الأنظمة العربية التي شعر بخيانتها.النكبة فرّقت حتى قبورنا فلا جدّ أو جدّة أو أباً أو خالاً أو عمّاً دفنوا في مكان واحد.. فلا ترحُّم على موتانا أمام قبورهم، ولا حتى إمكانية لتذكّرهم جميعاً لأنهم مشتّتون حتى في موتهم.في الفالوجة لنا تاريخ ولنا أرض ولنا هُويّة لا يمكن للزمن المار أن يمحوها، ولا لكلّ آليات الطمس أن تمحو الجغرافيا والتاريخ والرُّوح المغروسة هناك.توفي جدّي ثم والدي.. رحمهما الله، ولكن ما زالت قصصهم عن الفالوجة مسجّلة في الذاكرة وعلى أقراص مدمجة، لأننا سنحفظ كل شيء يرسّخ الذكرى حتى العودة.ولا شكّ في أن أحداً يوماً سيصل إلى مذياع أبو سمير وربما هو الذي سيقرأ على المذياع نشرات أخبار مرّت عليها عقود أطول بكثير مما نتوقّع.. حينها سنزرع شتلة "جاردينا" في شرفة المنزل بدل تلك التي تعبت كثيراً وهي تنتظر العودة؟!.