خرجنا صباحاً تلاميذ الصفوف الابتدائية، صفاً صفاً تسبقنا فرق الكشافة "إلى الأمام سر" على وقع الطبول العسكرية، بانتظام سيراً على الأقدام تماماً كما لو أننا نحن الجنود القادمون. لنا الغد نحن الجيل الصاعد كما تردد الأغنية، إلى الأمام في الطريق الذي يسمى شارع النصر، ومن هناك إلى ساحة الجندي المجهول، نهتف أمام تمثال هذا الجندي الجميل الذي لا يزال في عمر الشباب مصوباً ببندقية باليد نحو الشرق حيث الوطن السليب، وباليد الأخرى بأصبع السبابة. نردد وسط الزحام ونحن بالكاد نرى وجه الخطيب، نحن تلاميذ الصفوف الابتدائية وقد توزعنا في الزحام حتى تبعثرت صفوفنا، نفس الهتاف عن الوحدة العربية، "شعب واحد لا شعبين من مراكش للبحرين"، وللزعيم الخالد جمال عبد الناصر محطم الاستعمار والرجعية والذي يسحق تحت أقدامه بن غوريون وديان. قبل أن نعود عصراً إلى ساحة ملعب اليرموك نشهد عروض كشافة القرب الموسيقية العسكرية، وتمرين فتوة مدارس الثانوية وهي تنفذ مناورة بالذخيرة غير الحية اقتحام الحدود، وتدمير معسكر العدو وحرق العلم الاسرائيلي.كان ذلك زمناً من حلم وورد وأغنيات زمناً على صورتنا نحن تلاميذ الصفوف الابتدائية في عمر الورود. وعلى صورة الزعيم القائد المحبوب بقامته الطويلة وابتسامته التي تأسر القلوب، حيث بدت النكبة كما لو أنها خطأ عابر وسخيف مر أو حدث في غفلة من الزمن حيث لم نكن نحن هناك، وإنها مسألة وقت لا اكثر ليس ببعيد، سوف يتم تصحيح هذا الخطأ الغبي، ليس من قبلنا نحن الصغار حين نكبر، لا ليس بعد هذا الوقت حيث لم يتبين لنا بعد متى سنكبر وهذا سوف يستغرق وقتاً طويلاً، وليس ثمة بعد وقت للصبر. فيما كانت الصدور تغلي بالحماس للثأر (والزحف المقدس)، والعواطف ملأى بالأحلام والوعود. قريباً قريباً ولكن ليس ببعيد، وقد أكد ذلك لنا الأستاذ احمد عبد الغني الذي كان يعلمنا في الصف الأول الابتدائي كل الدروس حين قال لنا بصوت لا يعتريه الشك إن اسرائيل هذه ليست قوية وهي تخاف من القط. كان ذالك بعد اثنى عشر عاماً من النكبة وحيث كان مدخل المدرسة تتصدره لوحة عظيمة بالألوان الزيتية تصور جندياً آخر مجهولاً ولكن بثياب عسكرية مرقطة، بوجه تشع منه عينان متقدتان للثأر، يسير قدماً نحو الهدف تحرير فلسطين، وتحت اللوحة كتبت عبارة واحدة (الزحف المقدس) وإننا لعائدون.في السابعة والخمسين أنا تلميذ الصفوف الابتدائية أوائل عقد الستين الذي طالما حاولت الإشارة له على سبيل الحنين إلى الزمن الجميل، أو الفردوس المفقود أو جنة عدن، لعلني وجيلي أكثر ميلاً للتفكير أو التأمل في الزمن والظروف التي سيكون عليها الحال حين تكبر حفيدتي، وقد أصبحت جداً منذ سنة وتصبح هيا في عمر الصبا والشباب، حبيبتي هدول أو هدلا أو هديل وكلها تنويعات على إيقاع اسمها المشتق من سير الحمامة، طفلتي التي لا تعرف كما لا يعرف كل الأطفال الفلسطينيين ماذا ينتظرهم؟ فهل ثمانون أو مئة سنة أخرى على النكبة أو هي حرب الألف عام؟ وحيث ما استطاع لا جيل الآباء في عمر طفولتي آنذاك ولا جيلي أنا تلميذ الصفوف الابتدائية أن يصحح الخطأ الغبي وظل الخطأ التاريخي يحرقنا كما حطب الموقد جيلاً وراء جيل والنار لا تنام في حضن الموقد كما تردد فيروز في الأغنية.في الذكرى الخامسة والستين جداً هذه المرة لعلنا نكتسب قدراً من الحكمة والهدوء والواقعية أكثر في مقاربة المسألة. لم نستطع أن نصحح الخطأ لكن العدو لم يستطع أيضاً بعد كل هذا الوقت أن يلغينا، لم يستطيع شطبنا ولم نمت وعلى أرضنا أرض فلسطين نفسها نحن الذين بقينا جيلاً وراء جيل ونحن الذين نملك اليقين لا الشك في قرارة أعماقنا، الروح الباطنية أو العقل الباطني، المحرك الأكبر للتاريخ، بأننا نحن الباقون هنا إلى يوم الدين. وهل اسرائيل تخاف القط يا أستاذ احمد عبد الغني ولم نعد في الصف الأول الابتدائي الآن؟ لا ولكن قد كان هذا جميلاً منك في حينه، ولكن الحقيقة أيها المربي الفاضل وليرحمك الله أن اسرائيل هي التي تخافنا وتخشانا اليوم لا نحن من نخافها أو نخشاها. ولم نقر يوماً يا أستاذي الذي علمني القراءة والكتابة بأننا هزمنا لا أمس ولا اليوم ولا هذا الجيل الصاعد في عمر الشباب إصبع السبابة، سبابة الجندي المجهول، الذي يؤشر بها إلى الهدف بأن اسرائيل لم تستطع هزيمتهم.في السنة الخامسة والستين لم لا نفهم أن السبابة التي تحولت إلى صاروخ وصل إلى تل أبيب، ولما لا نرى إلى حقائق الصراع اليوم بأن الصراع لا يدور حقاً كما لاحظ صحيحاً بنيامين نتنياهو حول الأرض وإنما حول هوية الأرض؟ ولذا شيء واحد أقوله لك أيها الرئيس أبو مازن وأنت جداً لا تحتاج إلى من ينصحك، فاوض هؤلاء الكذابين المراوغين المخادعين، على الأرض مئة عام ليس ثمة مشكلة ولكن حذار التسليم أو التفاوض على هوية الأرض. فما دمنا هنا لن يستطيعوا اقتلاعنا من الأرض، ما دمنا هنا على أي جزء من الأرض بل على أي شبر حتى من هذه الأرض، لا خوف علينا لأن العصور والأزمان هي في حركة دائمة وتغير دائم، وقد كانت بالحق غفلة من الزمن والتاريخ، خطأ أو حدث عابر مثلما اسمهم في التاريخ العابرون أو المارون بين الكلمات العابرة، وقد كان شاعرنا الذي قال هذا الكلام طفلاً قبل عام النكبة. وآنذاك لعلنا لم نبلغ من الشعر والأدب كما نحن اليوم شأواً ولا كانت (الميديا) الإعلامية العالمية كما هي اليوم في زمننا كساحة مفتوحة، وحيث أعظم عالم فيزياء في وقتنا بعد اينشتاين يقاطعهم.سلاماً على بقائنا على الأرض إلى يومنا هذا في السنة الخامسة والستين. ثلاثة أجيال نحن من عمر النكبة والجيل الرابع على الأبواب، كدقات القدر على الباب، باب التاريخ ولا نكل أو نتعب ولا لانت عريكتنا. لا رفعنا راية موتنا اندحارنا أو هزيمتنا وإنما راية واحدة وضاءة نسلمها جيلاً خلف جيل للجيل الذي سيأتي وفلسطين ولادة. حروب من على الأسوار حروب من الداخل وحروبنا لا تنتهي، حرب وراء حرب تلد حرباً على مدى الزمن، وحيث الكبار يموتون والأولاد تلاميذ الصفوف الابتدائية لا ينسون. والاستيطان على الأرض لا يفعل أخيراً سوى توسيع مجال الاشتباك على مدى الأرض والمكان. وحيث من يستطيع البقاء في المكان يبقى ويتقدم ويتمدد في الزمان.