غزة / خاص/ سما/ تحتفل إسرائيل اليوم بما تسميه "عيد الاستقلال" الخامس والستين..ولكن هذا اليوم الحزين هو يوم "نكبة الفلسطينيين".. يوم هجروا قسرا من ارضهم تاركين خلفهم بيوتهم واموالهم وعتادهم..تاركين ارضهم وزيتونهم وبرتقالهم..تركوها على أمل العودة بعد سبعة ايام ولكنها امتدت لسبعة عقود من الزمن. هاهي تحتفل اسرائيل اليوم باستقلاها الخامس والستين..فيما يصر المنكوبون في غزة على الاحتفال بطريقتهم الخاصة عبر إبراز أوجه حياتهم الهادئة البسيطة قبل عام 1948 وما يمتلكونه من وثائق ومفاتيح تؤكد حسب وجهة نظرهم أحقيتهم في وطن عاشوا وكبروا به، وكان لهم فيه تاريخ وماضي وربما مستقبل.النكبة حلت على الفلسطينيين قبل خمسة وستين عاما عندما نجحت الحركة الصهيونة – بدعم من بريطانيا – في السيطرة بقوة السلاح على القسم الأكبر من فلسطين وإعلان دولة اسرائيل في الخامس عشر من مايو/آيار 1948.ولقي ما يقارب عشرة آلاف فلسطيني مصرعهم في سلسلة مجازر وعمليات قتل نفذتها حركات صهيونية، فيما أصيب ثلاثة أضعاف هذا الرقم بجروح وهاجر 70% من سكان فلسطين أي ما يقارب الـ’850’ ألف فلسطيني، توجه ’200’ ألف منهم إلى قطاع غزة، وأخليت نحو 20 مدينة و400 قرية من سكانها وباتت املاكها ومزارعها جزءا من الدولة الجديدة.في هذا اليوم اعود بذاكرتي إلى جدتي الحنونة التي تمسكت بالحياة، وعاشت اكثر من قرن من الزمان على امل العودة إلى الوطن...ولكنها لم تعد!! ماتت جدتي..ماتت ولم تعد.. ولكنها تركت لنا حلما واصرارا على العودة إلى بيتنا وارضنا وزيتوننا.ماتت جدتي .. ولكنها تركت مفتاح البيت.. وثائق الدار .. لا تختلف قصتها عن قصة ملايين اللاجئين الفلسطينيين..كانت تجاعيد وجهها تروي حكاية الفلسطيني اللاجئ قبل أن تتحدث هي عنها...اليوم انا هنا.. لاسترجع ذاكرة جدتي التي كانت عامرة بالأحداث لأكثر من قرن. ذكريات عاشت معها قبل ان تموت.. وورثناها نحن بعد موتها!!في العام 2008، وقبل ان تموت جدتي بعام واحد..كان لي لقاء معها، حدثتني فيه عن حياتها الهادئة قبل النكبة الفلسطينية وقبل أن يحتل اليهود ديارنا..وقالت لي "كنا مركزا للقرى المجاروة، فمعظم سكان بلدنا ’ المجدل ’ جنوب فلسطين، كانوا يعملون بالتجارة والصناعات الحرفية..لم يكن ينقصنا شئ كما لم نكن نعرف ما معنى الفقر’. شرحت لي كيف كانت قيم الناس قبل النكبة، فعلى الرغم من بساطة الناس وقلة تعليمهم حيث كانت المدارس فقط للصف السادس الابتدائي ومن أراد أن يتعلم يذهب إلى القدس ليكمل مسيرته التعليمية على نفقته الخاصة حسب قولها، إلا أنه كان من العار أن يكون هناك فقير في بلدنا..مضيفة "الأغنياء عادة يطعمون الفقراء وكان كل شيئ ذاتيا فأنا لازلت أذكر الزيت والزيتون وحصاد القمح وحظائر الطيور البيتية..كل كان في أرضه وعمله..حتى الأمطار كان غزيرة والخير كان وفيرا إلى أن حدثت النكبة واحتل اليهود أرضنا’.وعن ممتلكاتها هي وعائلتها اكدت لي أنها كانت تمتلك هي وجدي خمس محال تجارية وما يزيد عن 120 دونما من الأراضي الزراعية وبيت يتكون من غرفتين وصالون.. مؤكدة احتفاظها بوثائق ملكيتها للبيت والمحال والأراضي الزراعية وبمفتاح بيتها. اخبرتني عن يوم النكبة وقالت " كنا في موسم الحصاد عندما بدأ اليهود في قصف بيوتنا ومزارعنا..بدأ القصف ليلا واشتد نهارا لدرجة أن البيوت أصبحت تهدم فوق رءوس أصحابها، كما أن مجازر كثيرة نفذت بحق الفلسطينيين خصوصا في منطقة القدس’ وزادت "كل ما حدث بث الخوف والرعب في قلوبنا، فقررنا مغادرة بيوتنا لمدة لا تتجاوز الأسبوع على يقين منا بالعودة بعد أن تهدأ الأوضاع.. مشيرة إلى أنهم تركوا كل ما يملكون من مال ومواد غذائية في مخزن تابع لمنزلهم اعتقادا منهم أنهم عائدون بعد أيام أو أسابيع على الأكثر". لم نكن نتوقع أننا سنغيب ستون عاما عن وطننا..لذلك تركنا كل مالنا ومتاعنا وفراشنا..حتى أغراض مطبخي رتبتها قبل خروجي بطريقة منظمة اعتقادا مني أنني عائدة بعد أيام..لم يكن أحد يتصور أن يتم طردنا من وطننا كل هذا الزمن’.واضافت "كل الوثائق ومستندات الملكية لأرضنا ومفاتيح البيوت موجودة لدينا، ولازال الأمل يراودني وإن لم يكن لي أنا فلأبنائي وأحفادي بالعودة إلى بيتنا ووطنا’. وعن مسيرة الهجرة اخرتني "إن المسيرة كانت شاقة جدا في الهجرة إلى غزة حيث قصف الطائرات فوق رءوسهم فيما يعاني الكثيرون من الأعباء الكثيرة التي يحملونها من أطفال رضع وشيوخ بحاجة لمن يعتني بهم ويحملهم أثناء الطريق..’ أتذكر كيف كان الناس يهربون ويتجهون إلى اتجاهات بعيدة خوفا من القصف..كنا نسير مشيا على الأقدام وتشتتنا عن بعضنا البعض، فالأسرة الواحدة كانت لا تعرف أين باقي أفرادها’. وتضيف: ’ المخيف أن بعض الأسر المهاجرة تركت أطفالها الرضع وراءها ومنهم من ترك والده أو والدته الكبيرة الغير قادرة على السير..كثيرون ماتوا جوعا وعطشا وخوفا’.ووصفت منظر المهاجرين قائلة "المنظر كان محزنا ومخيفا في نفس الوقت..فالبعض يمشي حافي القدمين والآخر يحمل والده فوق كتفيه وأطفال مبعثرة هنا وهناك تصرخ من الخوف والجوع والعطش’وقالت بأسى "بين لحظة وضحاها أصبحنا لا نملك شيئا..ضاع الوطن وبقيت الذكريات نحدث بها أطفالنا وأحفادنا حتى يتمسكوا أكثر بماضيهم ووطنهم"استكمالا لتفاصيل رواية المعاناة، حدثتني جدتي عن المرحلة الثالثة التي تتعلق بوصولهم إلى قطاع غزة وهي "أصعب اللحظات" حسب قولها. "وصلنا إلى ضواحي مدينة غزة التي كانت تعاني الفقر في تلك الفترة، فغزة حسب قولها كانت فقيرة وصغيرة وقليلة السكان’.وتابعت " استقبلتنا بعض العائلات الغزية في البداية واستضافونا في منازلهم..وبعد أن طالت المدة بدأ بعض المواطنين الغزيين الذين يمتلكون فائضا من الغرف البسيطة يؤجرونها لنا بدل مبلغ بسيط من المال فيما ابتكر بعض اللاجئين أساليب أكثر توفيرا منها بناء بعض البيوت البسيطة من ألواح الخشب وفروع الأشجار وملابس قديمة إلى أن بدأت المؤسسات الإنسانية مثل ’الكويكرز’ توزع المواد التموينية الغذائية على اللاجئين الفلسطينيين وتقيم خياما بسيطة لنا، وبدأت بعد ذلك في تسجيل العائلات وتنظيم التعليم داخل الخيام’. وحسب جدتي فقد بدأت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في أوائل الخمسينات في بناء مخيمات للاجئين الفلسطينيين وقامت بتوزيع غرفة واحدة لكل أربعة أفراد كما بدأت في بناء المدارس والمستشفيات. وكان مخيم الشاطئ للاجئين أول المخيمات التي تم إنشاؤها حسب قولها.رسالتها الاخيرة كانت "رغم كل معاناتنا والصعاب التي واجهناها وغياب الأمل ورغم أنني عشت أكثر من مائة عام في فلسطين إلا أنني لازلت أحتفظ بذكرياتي وآملي بالعودة إلى وطني. وأنا شخصيا لن أتنازل عن حقي في العودة إلى وطني كما أنني أرغب أن أدفن هناك وأن يمد الله في عمري حتى أعود...اشتقت إلى كل شئ..لون الأرض المختلف وهواءها النظيف وراحة البال التي لا تنتهي، لذلك أرغب أن أعود وأعبر ذلك الحاجز الذي أراه أمامي ويفصلني عن أرضي ووطني".جدتي الحاجة أم توفيق هي لاجئة فلسطينية، من مواليد مدينة المجدل المحتلة ’عسقلان’ عام 1903، لها خمسة من الأبناء والبنات جميعهم أنجبوا قبل الهجرة، ولها ما يقارب المائة من الأحفاد وأبناء الأحفاد. توفي لها ثلاثة من أبناءها في مدينة غزة وكانت تحلم بالعودة إلى البيت والوطن قبل ان توافيها المنية في شهر مايو/أيار من العام 2009.ماتت جدتي.. وبقي الحلم!!!رحمك الله جدتي رحمة واسعة وأسكنتك فسيح جناتهمن : علا محمود