خبر : انهيار المشروع القومي ...د. حسن حنفي

الأحد 12 مايو 2013 11:52 ص / بتوقيت القدس +2GMT
انهيار المشروع القومي ...د. حسن حنفي



منذ أكثر من مئتي عام تكوّن المشروع العربي الحديث، وتلاقت عليه التيارات الفكرية الثلاثة منذ فجر النهضة العربية: التيار التجديدي، والتيار الليبرالي، والتيار العلمي العلماني. ويتكون هذا المشروع من أهداف سبعة: أولاً: تحرير الأرض من الاحتلال والغزو ومقاومة الاستعمار والصهيونية كما حاول الأفغاني. ثانياً: تحرير المواطن من القهر والاستبداد كما عرض الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". ثالثاً: العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل بما يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة بين الأغنياء والفقراء. رابعاً: وحدة الأمة ضد التجزئة والعشائرية والعرقية من أجل الوحدة العربية. خامساً: إثبات الهوية ضد التغريب والتبعية، وضع الأنا في مقابل الآخر، كما هو الحال منذ "تخليص الإبريز" للطهطاوي حتى علم "الاستغراب" (لحسن حنفي). سادساً: التنمية المستقلة والاعتماد على الذات والسيطرة على قوانين الطبيعة واستثمار الموارد الطبيعية كما بان ذلك في التيار العلمي العلماني منذ شبلي شميل في "فلسفة النشوء والارتقاء" وحتى "التطور اللامتكافئ" و"فك الارتباط" لسمير أمين. سابعاً: حشد الجماهير حتى يتحول الكم إلى كيف ضد اللامبالاة والحياد والفتور، كما عرض الكواكبي في "أم القرى". وبعد مئتي عام من تكوين المشروع القومي الحديث انهار في جيلنا. فبالنسبة إلى تحرير الأرض احتل مزيداً من الأراضي، فلسطين كلها، وأجزاء من سوريا ولبنان. وإسرائيل الكبرى على الأبواب بعد الهجرات السوفييتية الأخيرة، والاستيلاء على مصادر المياه، وتهجير الفلسطينيين. وبالنسبة إلى تحرير المواطن زاد القهر، وانتهكت حقوق الإنسان، وزاد الرأي الواحد، عقيدة "الفرقة الناجية"، سياسات الحزب الحاكم. وأتت لجان الأمم المتحدة لفحص انتهاكات حقوق الإنسان في بعض المجتمعات العربية فأتينا في الصف الأول. وبالنسبة إلى الفقر والغنى ازداد فقر الفقراء وزاد غنى الأغنياء، وعظمت المسافة بين الأغنياء والفقراء. وساء توزيع الدخل وعم الظلم الاجتماعي، وانتشر سكان المقابر، وساد الفقر والضنك. ونام الناس على الأرصفة، وافترشوا العراء، وخرجت الجماعات المتطرفة من أفقر الأحياء، إمبابة والزاوية الحمراء والوراق وزينهم. وفيما يتعلق بوحدة الأمة تفرقة الأمة شيعاً وأحزاباً. واشتدت هذه النزعات الطائفية، والنعرات العشائرية، ونشبت الحروب الأهلية، وسفك العرب دماء بعضهم بعضاً، وتنازعوا على الحدود، وغزوا بعضهم بعضاً. وانتشرت البحوث حول الأقليات في العالم العربي. وتتحول المنطقة كلها إلى دول طائفية، شيعة وسنة ودروز، إسلامية وقبطية ونعرات عرقية، عرب وغير عرب حتى تصبح إسرائيل هي الدولة الطائفية العرقية الكبرى، الدولة اليهودية في المنطقة، فترث القومية العربية. وتتم المقاطعات بين الأقطار العربية، ويسحب السفراء. وأصبح الصديق عدواً والعدو صديقاً، وأصبحنا أشداء بيننا رحماء على الخصوم. وفيما يتعلق بإثبات الهوية ضاعت الهوية، وعم التغريب في أساليب الحياة في الفكر والعمل، في الثقافة والسلوك. وأصبحت أسامينا "فايز موتورز"، و"سيد شيفورليه". ونذهب إلى محال "تيك أواي" ، و"كنتاكي". ونشأ الإسلام التجاري في محال "حجابكو"، و"إسلامكو"، ومحال التنظيف "تنظيفكو". وبدلاً من "شروق من الغرب" نشأ رد الفعل الطبيعي "ظلام من الغرب". وفيما يتعلق بالتنمية المستقلة ازدادت تبعية الأمة للخارج في غذائها وكسائها وسلاحها وثقافتها. 70% من غذاء مصر يأتي من الخارج. تم ارتهان الإرادة الوطنية بالقمح. وأشهر سلاح التجويع. وتم الاعتماد على خصم الأمس لحل القضايا الوطنية. وقيل إن 99% من أوراق اللعبة في أيدي الولايات المتحدة. وفيما يتعلق بحشد الجماهير تحولت الجماهير إلى السلبية المطلقة. ولم تعد تهتم بشيء مهما حدث لها. تبحث عن لقمة العيش، وتجري وراء الخبز. ولم تستطع هبّات الخبز في مصر والمغرب وتونس والجزائر أن تتحول إلى ثورات شعبية قادرة على التغيير. والخطاب الثاني هو الخطاب العلماني، الليبرالي أو القومي أو الماركسي، وهي الأنظمة التي حكمت بلداناً من الوطن العربي. هو خطاب غربي في مجمله، تابع للثقافة الغربية. ويضع الوافد بديلًا عن الموروث، ويجعل ثقافة الآخر ضد ثقافة الأنا. يأخذ بالنموذج الغربي نمطاً للتحديث، وينكر خصوصية الشعوب والمجتمعات. هو خطاب مقلد للغرب، وينقل عنه ويتهم الخطاب الماضوي المضاد بالتقليد والنقل من القدماء، تقليداً بتقليد، ونقلاً بنقل، و لا فضل لأحد الفريقين على الآخر. يقف من التراث موقف الرفض، ويأخذ نموذج القطيعة بين القديم والجديد. فلكل عصر ثقافته. ولما كانت ثقافة العصر هي الثقافة العلمية الإنسانية كانت ثقافة كل الشعوب الراغبة في التقدم والنهضة. وكل محاولة لنقل القديم إلى الجديد، وإعادة بناء القديم طبقاً لحاجات العصر هي محاولات توفيقية بين ضدين، تخشى الحسم والاختيار بين بديلين متناقضين لا يلتقيان. الخطاب الماضوي استراتيجية والخطاب المستنير تكتيك. ولا ضير أن تفسح الدولة أجهزة الإعلام فيها للخطاب العلماني ليهاجم الخطاب السلفي مثلاً، استعمالاً لفريق ضد فريق ما دامت المصالح الآنية واحدة. وكان من الطبيعي أن يرفض الخطاب الماضوي الخطاب العلماني. يتهم الليبرالي بالتبعية للغرب، والقومي بالعنصرية والعرقية، والماركسية بالمادية والإلحاد. والخطاب الثالث هو خطاب الأحزاب الحاكمة في بعض الجمهوريات، الخطاب السياسي الذي يقوم على إخفاء الحقائق، والتمويه على الناس، والكذب الصريح. هو خطاب مناسبات، تابع لإرادة الحكم. وقد يتغير تغيراً جذرياً، ويتحول 180 درجة بين يوم وليلة. يحدد معالمه فرد واحد هو الزعيم، ورؤية واحدة هي رؤية النظام السياسي. هو خطاب كاذب لا يسمعه أحد لآن الناس تعرف الحقائق من محطات الإذاعات الأجنبية حتى دان ولاؤها الإعلامي للخارج، وانفصل عن الداخل. وحتى يصبح خطاباً محبوباً للجماهير يتحول إلى خطاب إعلامي عن طريق الإعلانات! وذاعت شهرة الإعلانات على الخطاب السياسي الرسمي، وراجت بضاعة فتيات الإعلانات عند الزوار العرب. تعقبها المسلسلات التلفزيونية التي تربط المشاهد بالشهور أمام الشاشات الصغيرة، مصرية أو أميركية فيجد المشاهد في المسلسل المصري تفريجاً عن مآسيه، وفي المسلسل الأميركي تسلية له وانبهاراً بالتحرر الغربي وبحياة الغربيين تعويضاً عن كبته وحرمانه. الخطاب السياسي للحزب الحاكم خطاب فارغ من أي مضمون، إنشائي يعتمد على البلاغة وعلى أن اللغة نسق مستقل بذاته، وليست أداة للتعبير عن المعاني، خطاب مناسبات قومية ثورة 23 يوليو، 6 أكتوبر... الخ يمجد في إنجازات الحزب مدعماً بالإحصائيات الكاذبة أو المقروءة قراءة واحدة. ولا يكاد يذكر شيئاً عن مأساة الحاضر. يعد بتجاوز عنق الزجاجة عما قريب. ويبدو أن عنق الزجاجة طويل للغاية لم نتجاوزه بعد منذ عقدين من الزمن. لا يستمع إليه أحد إلا رجالات الحزب الحاكم. ولا يؤثر في أحد، حاكماً أو محكوماً. ولا ينطلي على أحد عدواً أو صديقاً. هو الخطاب الذي يدخل من أذن ويخرج من الأذن الأخرى، كلام للاستهلاك المحلي، ورقة التوت بين الحكم والمحكوم