كما يعرف القرّاء فأنا لا أهيم حباً بالنظام السوري، وأعتبر أن هذا النظام هو المسؤول الأول والمباشر عما يتم وعما تم حتى الآن من تدمير هائل لهذا البلد العربي الشقيق، ومن تهديد خطير لوحدة ترابه الوطني، وتماسك مجتمعه الذي عرف على الدوام، مجتمعاً ينبض بالعروبة والوجدان القومي والأصالة الوطنية والتوق نحو التحرر والوحدة والحرية والديمقراطية. بل أعتبر أن النظام هو من أجّج الضغينة الطائفية، وهو بالذات الذي يقود البلاد إلى التقسيم وربما التمزق، أيضاً. ليس هذا فحسب بل إن النظام هو الذي رفض الحوار منذ البداية، وأدار ظهره للمطالب الشعبية واستخدم كل أشكال القمع والقتل بأبشع الصور وأكثرها دموية وقسوة. وهو نفس هذا النظام الذي استجلب من خلال تعنّته وغطرسته ودمويته بعض، إن لم نقل كل قوى التطرف ومهّد لها الطريق في مشهد هو أقرب إلى التفكير الجهنمي الذي حوّل غاية الحفاظ على النظام بكل مفاسده وهمجيته مبرراً لكل هذه الوسائل المنحطة في التعامل مع مطالب الكرامة والحرية التي نادى بها الشعب السوري الشجاع إلى أبعد حدود الشجاعة.ولكن ومع كل ذلك فإن دخول بعض الفصائل المسلحة على خط العنف الطائفي وبدء عرقلة كل المساعي العقلانية لوقف هذا الجنون والدعم الهائل الذي تتلقاه هذه الفصائل المتطرفة والمغرقة في تشددها ورجعيتها وتخلف مفاهيمها وأدواتها من قبل إمبراطورية الغاز المسيّل على هيئة مليارات وبدون حساب أصبح يلقي بظلال قاتمة من الشك على صيرورة الأهداف الوطنية والديمقراطية المعادية للنظام وجبروته وقسوة أساليبه القمعية.إسرائيل كانت سعيدة كل السعادة بهذا القتل الجماعي الذي يقوم به النظام، ثم زادت سعادة على سعادة بعد دخول الغاز دولار على خط العنف الطائفي، واحتدام الحرب حول كل شيء باستثناء الحرية والكرامة التي نادى بها الشعب السوري ودفع من أجلها بشجاعة نادرة ثمناً باهظاً للغاية.كل ما يهم إسرائيل هو تدمير الدولة السورية وتدمير وإضعاف الجيش السوري وتمزيق وتفتيت المجتمع السوري وتحويل إعادة اللحمة الوطنية إلى نوع من المستحيل.اختارت إسرائيل مساحة تدخلها في سورية وحددتها في إطار واحد ووحيد وهو "وصول" الأسلحة الحساسة بما فيها الكيماوية إلى حزب الله وإلى بعض المنظمات المتطرفة الأخرى في الداخل السوري.وإسرائيل والحالة هذه هي "الوحيدة" التي تحدد زمان (هذا الوصول) وهي الوحيدة التي تحدد مكانه، وبالتالي فهي وحدها من يحدد حجم الضربات ونوعيتها، والأسلحة المناسبة لهذه الضربات.إسرائيل "واثقة" من أن النظام قد ضعف إلى درجة يجعلها مطمئنة إلى "صحة" ما تقدم عليه وما تقوم به دون أن تدفع ثمناً يذكر ودون أن يشكل لها أي تهديد من أي نوع كان، خصوصاً وأن ردة فعل النظام أصبحت بالنسبة لها (أي إسرائيل) معروفة وروتينية حتى عندما كان النظام أقوى مما هو عليه الآن وبما لا يقاس.أزعم هنا أن الحماقة الإسرائيلية تكمن هنا بالذات وأزعم أن هذه الحماقة هي من النوع القاتل. كيف؟ ولماذا؟ إسرائيل تعرف أن هدف الضربة الأخيرة أبعد وأبعد بكثير من "تلفيقة" الأسلحة الإيرانية (الذاهبة!!) إلى حزب الله. النظام السوري يعرف هو بدوره أن القضية أبعد من ضرب (مستودع للصواريخ).إسرائيل تعرف أن النظام يعرف هدف الضربة وحجمها، والنظام يعرف أن إسرائيل تعرف أهداف الضربة وأبعادها، ولهذا فإن خيارات النظام باتت محدودة وفي أضيق الحدود وأصبح ظهر النظام إلى الحائط.إما أن يقبل النظام بلعبة نتنياهو والتي ستتحول إذا بقي النظام على "موّاله" القديم وجملته الشهيرة (ستردّ سورية على العدوان الإسرائيلي في الوقت المناسب) إلى نوع من التنكيل بالنظام قبل سقوطه الذي بات في ضوء واقع من هذا النوع حتمياً وأقرب من أي وقت مضى، وإما أن يعتبر النظام بأن لعبة نتنياهو واللعبة الإسرائيلية عموماً هي فرصته المواتية للإفلات من مصيره المحتوم.لاحظوا معي ردة فعل النظام هذه المرّة!!النظام وعلى لسان بعض المحسوبين عليه قال إنه سيرد على إسرائيل في أية مرة قادمة (وهذا كلام جديد وجديد جداً) وبأنه (أي النظام) قد أعطى الأوامر الآلية المباشرة للرد على أية مرة قادمة دون مراجعة أو طلب الأوامر (وهذا جديد وجديد جداً).النظام قال، أيضاً، إنه ومنذ هذه اللحظة سيزود المقاومة في لبنان وغير لبنان (بكل أنواع الأسلحة وتلك المتطورة منها) وهذا جديد وجديد جداً، إضافة إلى ما قاله النظام بأنه سيسمح لفصائل المقاومة الفلسطينية بالعمل من جبهة الجولان وهذا جديد، أيضاً.إذا استمر نتنياهو بلعبته في سورية فالنظام سينتحر عملياً إذا لم يرد، وإذا تراجع نتنياهو وتوقف عند هذه الضربة الأخيرة فإن النظام يكون قد حقق ردعاً لم يحققه في أي يوم من الأيام، وهو سيغتنم هذا الردع لتحويل (وصول الأسلحة إلى لبنان) (وفتح جبهة الجولان) سيفاً مسلطاً على نتنياهو وورقة في يد النظام وليس في يد إسرائيل.قد يكون النظام وصل إلى درجة متهالكة من الضعف وبالتالي ليس هناك من شيء يخيف نتنياهو، ولكن الوقائع على الأرض لا توحي بذلك، وأغلب الظن أن حسابات إسرائيل هذه المرة خاطئة بالجملة وصحيحة فقط في بعض أنواع المفرق ويبدو أن إسرائيل قد ارتكبت في الضربة الأخيرة حماقة كبيرة ومن النوع القاتل.