مع فارق الأحوال والدوافع والأهداف، فإن الجيش الإسرائيلي يتبع منهجاً واحداً حين يبحث عن ذرائع وردود فعل من قبل الطرف المستهدف لشن حرب، أو ارتكاب عدوان واسع. هذا ما وقع قبل الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، وهذا ما حصل مع الاعتداءات والحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهذا ما يحصل مع سورية، تعتمد الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية نهج تحضير الجبهة الداخلية عبر المناورات العسكرية الهادفة، وعبر حملة إعلامية تقوم بتضخيم المخاطر الأمنية الاستراتيجية للطرف الآخر، مترافقة مع حملة علاقات عامة دولية لضمان التأييد أو التفهم أو محدودية ردود الفعل. ثم تحضر لعدوانها أو حربها من خلال عمليات قصف محتملة أو توغلات، أو انتهاكات للسيادة على الأرض وفي الجو، فإن جاء رد الفعل من الطرف الآخر المستهدف بما يكفي لتبرير العدوان بادرت إليه، وان صبر على تلك الانتهاكات والاستفزازات، صعدت من هذه الانتهاكات إلى الحدّ الذي لا يمكن احتماله فيكون لها ما تريد. في حالات معينة يطول الصبر اما لاعتبارات سياسية، أو ضعف وتردد، وإما لإدراك الطرف الآخر بما تسعى إليه إسرائيل، وحتى لا يعطيها الذريعة التي تنتظرها. فتلجأ إسرائيل إلى استفزاز قوى وجماعات لا تنضبط للسياسة العامة، ولا رؤية سياسية لديها تمنعها من الرد فيكون ذلك مبرراً للعدوان.القصف الإسرائيلي الذي استهدف مركز جمرايا ومستودعات للواء السوري 105 على مقربة من جبل قاسيون الذي تستظل في أحضانه العاصمة السورية، كان من العنف والشراسة، ما يدفع أيوب للخروج عن صبره، لكنه لم يخرج النظام السوري عن صبره، إن كان صمته صبراً. ذلك القصف لم يكن لا الأول ولا الثاني ولا العاشر، منذ اندلاع الصراع الداخلي في سورية، لكنه كان الثاني خلال ثمان وأربعين ساعة، إذ سبقه قصف استهدف قافلة سلاح قيل إنها متوجهة لصالح حزب الله. ومع أن الأنباء أشارت إلى أن إسرائيل أرسلت إلى الرئيس السوري رسالة تطمئنه أنها لا تستهدف الإطاحة بنظامه، إلاّ أن قصف مركز جمرايا، لن يكون الأخير، والأرجح أن يتبعه قصف أشد عنفاً وإيلاماً إلى أن يستفز رداً سورياً، تتخذه إسرائيل مبرراً لتوسيع عدوانها وتوسيع الفرص أمام التدخلات الأجنبية المباشرة، خصوصاً الأميركية أو المدعومة أميركياً.ونلاحظ أن نتنياهو لم يغير برنامج زيارته للصين إلاّ بضع ساعات قليلة وتستمر لخمسة أيام، ما كان له أو لغيره في أي بلد في العالم أن يفعلها لو أنه يشعر بالحد الأدنى من التهديد على بلاده جراء ما قامت به من عدوان. يعرف نتنياهو أن سورية في وضعيتها الراهنة منشغلة ومنشغل جيشها في الصراع الداخلي، وان هذا الجيش تحول إلى شرطة داخلية، ومعنوياته مهزوزة، هذا فضلاً عن أن سورية التي تدرك أبعاد العدوان الإسرائيلي وأهدافه لا ترغب في تقديم ذريعة لتصعيد التدخل الخارجي، فيما النظام يحقق المزيد من التقدم على جبهة قتال المعارضة المسلحة. وفق الخيارات المتاحة فإن النظام يلوذ بالصبر، ويكتفي بإصدار قرار يسمح لقوى المقاومة الفلسطينية تنشيط عملها العسكري من الجولان، وهو أمر لم يسمح به النظام منذ حرب تشرين 1973.يعرف أركان النظام أن هذا القرار غير قابل للتحقيق على نطاق واسع، ففصائل المقاومة الموجودة في سورية باستثناء الجبهة الشعبية القيادة العامة لا تملك وجوداً مسلحاً، لا مقاتلين ولا أسلحة، وجبهة الجولان بالنسبة لها جبهة جديدة كان محظورا عليها الاقتراب منها حتى للتصوير الترفيهي.وبغض النظر عن الموقف من الصراع الدائر في سورية، إن كان لصالح تأييد النظام، أو لتأييد معارضيه، فإن المشهد الذي سبق القصف الإسرائيلي الأخير، وتبعه، يشكل استفزازا لكل ذي عقل، ولكل ذي إحساس وطني أو قومي.هل يعقل أن يستنجد بعض الحكام والأمراء العرب، بالولايات المتحدة علنياً، للتدخل العسكري، على غرار ما حصل في ليبيا، من أجل حماية المعارضة التي يتهدد وجودها النظام؟ وهل يعقل أن يشارك بعض الأئمة المسلمين الكبار في حملة التحريض من أجل استعجال الرد والتدخل الأجنبي في سورية؟هل أصبحت إسرائيل هي ملاذ إنقاذ شعوبنا العربية وأداة نهضتها وحريتها حتى يحتفل مقاتلو المعارضة بالعدوان الذي شنه الجيش الإسرائيلي على مواقع الجيش السوري؟ وهل يمكن لعقل سوي أن يقبل شخص إحراق العلم الفلسطيني احتفاء بدور نقيضه المحتل الإسرائيلي؟ أين يمكن أن نعثر على هذا المشهد إلاّ في إسرائيل ومن قبل غلاة المتطرفين؟ أي ربيع هذا الذي ينتظر سورية المدمرة على رؤوس جيشها وأهلها، ومثقفيها، وسياسييها ومعارضيها، أم أن علينا أن ننتظر خريفاً قاحلاً صحراوياً؟مخز المشهد العام، ويدعو للتقزز والاشمئزاز، ذلك أن إسرائيل الطامعة لأن تكون شريكاً للولايات المتحدة في إعادة رسم خارطة المنطقة والدولة التي تسعى وراء توسيع نفوذها ومصالحها، لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تفعل ما يفيد الطامحين إلى الحرية والاستقلال والديمقراطية، ولا يكتمل المشهد إلاّ حين نسجل خجلنا مما قامت به شرطة حماس في خان يونس أول من أمس حين قمعت بالقوة اعتصاماً بادرت إليه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين احتجاجاً وإدانة للقصف الإسرائيلي بدون أن يحمل المعتصمون ما يفيد أو يشير إلى تأييدهم للنظام السوري. إذا كان هذا هو حال الأمة، فإن علينا جميعاً أن نعيد النظر فيما يجري في طول المنطقة وعرضها.