مفهوم صِدام الحضارات، الذي أثاره الأكاديمي الأميركي صموئيل هنتنجتون وجعله أكثر شعبية، له علاقة أكثر وثاقة من أي وقت مضى في أذهان العديد من الناس. هناك منظور، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين المسلمين والغرب، بأن القيم المسلمة والغربية غير متكافئة. رغم ذلك، كان طرح هنتنجتون بأن النزاع بعد الحرب الباردة سوف يُحدد ليس بالأيديولوجيا أو الاقتصاد، وإنما بالخلافات الثقافية، كان بالتأكيد له طابع التنبؤ، حيث إن الثقافة أصحبت الأساس المبدئي للتفاضل، رغم أن الثقافة نفسها يُنظَر إليها أحياناً بأسلوب ثابت وساكن إلى حدّ بعيد جداً. كان ردّ الفعل تجاه ما توصّل إليه هنتنجتون يعكس عدم ارتياح بشكل عام، فلو كان ما قاله صحيح فإن مستقبل العالم يمكن أن يكون قاتماً إلى حدّ بعيد، وسوف تُعتبر الفروقات الثقافية شريرة بدلاً من أن تكون أسساً لتنشيط التنوع. بدا هنتنجتون بالنسبة للكثيرين، وكأنه ينظر إلى نصف الكوب الفارغ، في الوقت الذي فرض فيه مفهوم التفاعل العالمي، والعولمة بشكل عام، قراءة مشجّعة أكثر للوضع. لكل من الطرفين موقف صحيح، كان هنتنجتون ذو بصيرة عندما أدرك أن سبب النزاع سيتحوّل بعيداً عن الخلاف العقائدي (رغم أن الحوار المتعلق بالاقتصاد كان أقل إقناعاً)، بالرغم من بقائها في مجال الأفكار. إلا أنه صحيح كذلك أنه في طرحه، بدت العلاقات العالمية، وكأنها تعكس رؤية كارثية من الاختلاف الأبدي والعداء. ليس هناك خطأ في بحث الفروقات بين القيم الغربية والقيم المسلمة، ولكن إضفاء ميّزات لا تتغير للحوار على الجانبين هو إغفال للطبيعة المتكيفة للثقافة، وقدرة بني البشر على تعديل ردود الفعل الثقافية في البيئات المتغيرة. إذا أراد المرء مساءلة منظومة هنتنجتون، فيجب القيام بذلك في إطار طرح الرؤى، فبالنسبة للعديد من الناس في الغرب، كانت الثورات العربية منذ عام 2011 حالة تعبّر عن ذلك. لقد أخذ هؤلاء الناس يؤمنون أن ما بدأ كرغبة بالديمقراطية والحرية، انتهى الأمر به مفضِّلاً للجماعات الإسلامية (وهي جماعات تؤمن أن هناك دوراً للإسلام في السياسة)، وهي ليست ديمقراطية بشكل خاص ولا متسامحة مع الحرية، وسعت في العادة للحصول على تشريعات تحدّ من قدرات المرأة، التي تشكل جزءاً كبيراً من شعوبها. إلا أن الواقع يكمن في الفروقات الدقيقة، ففي مصر وتونس على سبيل المثال، استولت جماعة "الإخوان المسلمين" وحزب"النهضة" على المؤسسات الحكومية الرئيسية. وأصبحت الجماعة عرضة للنقد بشكل متزايد، حيث إنها احتفظت بسلطات تسمح لها بكبح حريات معيّنة، مثل حرية التعبير، بينما داست بغلاظة على هيئات تمثيلية. يشكّل الاعتراف بالتيارات التحتية المعقدة للثورات العربية ضرورة مهمة حتى يتسنى فهم ما يجري، فالمفهوم السائد بأن هناك ما لا يمكن تسويته بين تطلعات المجتمعات العربية وتطلعات المجتمعات الغربية هو مفهوم مبسّط وخاطئ في أغلب الأحيان، تماماً مثلما هو ساذج أن نتوقع أن المجتمعات العربية التي هي في غليان، وستعتنق بكامل إرادتها القيم الغربية، مثل العلمانية وأولوية الفرد على حساب المجموعة، وهكذا. المطالبة بمثل هذا الاعتناق، وهو أمر لا يقل عن إعلانه أمراً مستحيلاً، هو الإيمان بأن الثقافة تتكلم بالأمور المطلقة. ففي السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أدت المعرفة الشائعة إلى تفهّم غربي أفضل لتعقيدات العالم المسلم، بينما عملت تغييرات بعيدة الأثر في العالم المسلم على إفشال المنظور الغربي الأسود والأبيض للمنطقة. فعندما ثار السوريون قبل سنتين، لم يترددوا في طلب المساعدة الغربية، تماماً مثلما تم اعتبار عملية إسقاط الأنظمة المتسلطة تطوراً إيجابياً في الولايات المتحدة وأوروبا. ما زال السوري أو المصري ينظر إلى الحرية تماماً مثل الفرنسي أو الأميركي، حتى رغم أن العقد الاجتماعي الذي يفضّله كل منهما لحماية هذه الحريات مختلف. ربما سيطلب البعض المزيد من العلمانية، ويطلب آخرون المزيد من الدين. ولكن إذا انتهى الأمر بأن يؤدي العقد الاجتماعي المفضّل إلى إفشال هذه الحريات نفسها، فإن ذلك يعني وجود فرص لحصول عمليات تمرّد جديدة في مرحلة ما. كان هنتنجتون على صواب عندما تطلّع باتجاه الثقافة على أنها الحدود بين المجتمعات الغربية والشرقية. ولكن الحدود تتغير باستمرار، والقيم تتقطع بين الثقافات. والافتراض بأن الثقافات تملك اكتفاءاً ذاتياً وأنها غير متغيرة هو أمر خاطئ مثل الافتراض بأن المميزات الثقافية يمكن حلها دون تمييز. تكمن الحقيقة حول الثقافة في الوسط، فالقيم قابلة للنقل من مكان لآخر، وهذا سبب كون الهوية فاتنة عندما يتم تقييدها بأقل قدر ممكن. كاتب في "ديلي ستار" اللبنانية