القوة الظاهرة والمبالَغ فيها، في حركة الاسلام السياسي، ليست من السلامة من العاهات الفعلية او المحتملة، بحيث تدعو الى الاطمئنان الى مستقبلها ومستقبلنا معها.إن ما قد يدعونا الى الاطمئنان ولو نسبياً، هو التخفيف من استشعار القوة الفائضة، انطلاقاً من حساب الوقائع المتحققة، وبالعودة الى التاريخ القريب والبعيد أيضاً، للدول والأحزاب والقوى التي أغرتها الفراغات الكبيرة في حال من سبقها، بالمبالغة في تقدير انتصارها، فانتكست، وكان وقع انتكاسها ثقيلاً عليها وعلى البشرية جمعاء (النازية أوضح الأمثلة ولا ننسى الشيوعية) وقبل هذا وذاك، لن تكون حركة الاسلام السياسي، من دون تفريق عميق غير متوفر، بين أحزابها وتشكيلاتها المؤتلفة أو المختلفة، سياسياً أو فكرياً أو مذهبياً، لن تكون بخير وعافية وتتجنب المزالق والمآزق، إلا إذا تنكبت سبيل الذرائعية والنفعية والانتهازية، وتمسكت بالمعيارية الإنسانية، أي الدولة المدنية التي تحتكم للقانون والقيم الروحية في الأديان وتحقق العدالة والتي هي، اي الدولة المدنية، أي دولة المواطنة، هي المميز الوحيد المتاح والضامن لوجودها ووجودنا ومستقبلها ومستقبلنا.هذا كلام قديم ومتجدد، يجدده مشهد الربيع العربي ووقائعه السالبة والموجبة، الحقيقية أو المبالغ فيها، لمصلحة الإسلام السياسي بكل تنوّعاته وتناقضاته، أو ضده، كما تجدده وتعمقه وتدعو الى التصديق على صحته، مآلات الأمور في تجربة مصر وتونس خاصة، معطوفاً عليها خوف حقيقي من مشابهة الحالة السورية لها، مع احتمال أن يكون هذا المآل السوري مناسبة لاختلاط العلامات الليبية بالعلامات المصرية والتونسية فيه. في حين ان التجربة اليمنية حتى الآن، وبسبب غياب المشروع السياسي الإسلامي أو عدم بروزه، والذي لا يعني غياب الإسلام، تعدنا أكثر من غيرها، ومن دون إهمال للصعوبات والإعاقات التاريخية الداخلية، أو المفتعلة من الخارج العربي والإقليمي والدولي.. تعدنا - أي التجربة اليمنية - بمآل أكثر انسجاماً مع ضرورات التغيير وإشكالياته التاريخية، المختلفة تعريفاً عن الإعاقات الإيديولوجية، ما قد يشجعنا على أن نقر بتقدم في اليمن أبعد من جماليات الخطاب وحداثته لدى التيار الوطني السوري المتعدد وغيره. والذي نخاف أن ينقلب الى لغة إيديولوجية متعددة ومتقابلة، بسبب أنه لم يرقِ حتى الآن الى رؤية جامعة أو مشروع أو برنامج مطلبي واضح وقائم على نظام معرفي مركب من الثابت والمتغير والمختلف.. ونخاف أيضاً أن تنقلب اللغة الجبهوية العميقة بين الأطراف الوطنية الليبرالية واليسارية المعدَّلة، وبين «الإخوان المسلمين»، الى لغة مسايرة متبادلة، بناء على استشعار القوة لدى «الإخوان» والشعور بالضعف لدى الآخرين، ما يدفع الى تفجير الاختلاف وتصعيده الى خلاف وصراع، تتسع معه فضاءات «الإخوان» لاحتضان التطرف ومشاركته.. أو استلحاقه والاستقواء به. في حين تكون القوى الأخرى (الوطنية الحداثية) قد وجدت نفسها مضطرة الى التماسك، لا على أطروحة أو مشروع، بل ضد الآخر .. وفي حالة شعبية أدّت بها التجارب مع أحلام الدولة الحديثة التي مسخت، الى الذهاب الى فضاء الاسلام السياسي، على استعداد وجهوزية دائماً لتقوية العصبية بالتطرف وترجيح الهوية الفرعية (أكثرية أو أقلية) على الهوية المركبة.بإمكاني تلخيص هواجسي أو مخاوفي، بأن غياب البرنامج، في الربيع العربي، قد يؤدي كما أدى في مصر وتونس، الى غلبة الإيديولوجيا على المطلب وإدارة الحراك وبناء السلطة البديلة، واللوازم الإيديولوجية متوفرة أكثر لدى الإسلاميين، ما قد يعني إغراءهم بإلغاء الآخرين، مباشرة أو مداورة.. ولكن، وبناء على معطيات مصر وتونس، يستطيع أي رافض أو متحفظ على الإسلام السياسي، أن يتوقع أن يكون مصير الإسلاميين في السلطة، الى فشل، يضاف الى فشل الشموليات الأخرى كالشيوعية التي عاشت عمراً مديداً نسبياً وأنجزت شيئاً، ولكنها ألغت الحرية والتعدد فألغت كل شيء.لعل التركيب الإسلامي العربي الشيعي اللبناني، في دمي وحبري وذاكرتي وأحلامي، هو الذي يلزمني أن أعود الى الراهن السوري واحتمالاته، ومصادر الخوف عليه من مشهده.. الذي انجلى عن سقوط أدبي ذريع للنظام، من دون أن يكون هناك صورة مكتملة أو شبه مكتملة لبديله الجدير بحمل مشروع الدولة العصرية الأصيلة الجامعة والحاضنة، ما يعني أنه قد يسقط الحاكم أو الحكم، ولكن قيمه تبقى قابلة لأن يعاد إنتاجها على يدي الخصم، ويعود المواطن لاحقاً ليستذكر ملامح الحاكم الساقط في وجه وعقل وأداء بديله.. (خليفته).. ومبكراً، قال كثير من العراقيين بناء على ما رأوا وسمعوا: إن صدام موجود بنسبة أو بأخرى في كل الذين أتوا بعده، وكلما كان موقع الشخص متقدماً أكثر في بناية السلطة العراقية كانت صدّاميته أشد وضوحاً وأخطر.هنا نسجل خوفنا من أخبار العنف المذهبي المبالغ فيها قطعاً، ولكن ذلك يحدث قطعاً، باعتبارها قتلاً للهوية المركبة وإعادة تأسيس للهوية الأحادية القاتلة.. هذا يستدعي، وفي سوريا خصوصاً، التعجيل الى تأسيس جبهة عميقة وعريضة، تغري التطرف بالاعتدال والمذهبية بالوطنية، لأن غيابها يغري الاعتدال والوطنية والاسلام والعروبة بالتطرف.هناك جروح عميقة وقروح وأعطاب مقيمة في ذاكرتنا الربيعية.. فالنكبة كانت في الربيع العربي وكذلك النكسة، وحرب لبنان ربيعية الخ وفي كل هذه المحطات وغيرها كانت رياح الخماسين أو رياح السمّوم، تهب شديدة لاذعة ومدمرة، ومانعة للرياح اللواقح، التي تحمل اللقاح الى الزهور لتخصب، فتسقط ويأتي الصيف قاحلاً. وتنعــكس الآثار سلبياً على المزارعين والفقراء، وإيجابـياً على الحليفين التاريخيين، الحاكم المستبد والتاجر الفاسد.وهذا أمر له ما يشبهه في الاجتماع والسياسة والتاريخ، ومثلنا الملموس الآن، هو الربيع العربي الذي اخذ تسميته من مواعيده، وقد يستحقها من الوقائع، بالسلب، أي إذا غلبت الأخطاء، أو الفوضى، أو التطرف، أو القتل على الهوية، أو أخذ الحق أو الباطل باليد، اي إسقاط القانون، أي إسقاط الدولة، الى التباس البدل بالمبدَل منه، (كما في خريف البطريرك).. مع ما يقتضي ذلك من العمى الإيديولوجي الديني أو المذهبي أو العرقي أو العلماني.. ومع هذه الحال المحتملة، يعود الارتهان لنا، وتخسر المراهنة علينا، ويصبح الخارج، كل خارج داخلاً، وتسقط السيادة والاستقلال، وتتم التواطؤات مع الأصدقاء والأعداء، للشراكة في إعادة إنتاج الاستبداد والفساد، من دون أن ترتقي صناديق الاقتراع لتكون دليلاً على الديموقراطية.هذه المخاوف لا مجال لنفيها، لأنها ملموسة، ولا داعي لتضخيمها، وفي المثال السوري: هناك شغل لئيم على تسجيل جرائم النظام على حساب المعارضة، وهذا يستدعي احتياطاً أكثر.. علماً بأن الشعب الذي يؤيد ويضحّي ويصبر يبقى على استعداد دائم للمحاسبة.. مع احتمال لا بدّ من التوقف عنده، هو الارتداد الشعبي، إذا لم تثبت قوى الثورة انها أفضل نوعياً، كمياً وكيفياً، من النظام. أو أفضل بكثير، بحيث تكون التضحيات العظمى لا تشكو من تفاوت كبير بينها وبين النتائج. عن السفير اللبنانية