لا تنفك حماس تصدر القانون تلو الآخر والتشريع وراء التشريع، وكأنها في سباق مع الزمن لتغيير القواعد القانونية والتنظيم التشريعي الذي يضبط علاقات الناس فيما بينهم وعلاقتهم بالمؤسسات الحكومية. ورغم ان الكثير من القوانين كان قد سن قبل ذلك وطوال سنوات الانقسام الست، فإن الأشهر الاخيرة شهدت تسارعاً كبيراً في وتيرة التشريع وتطبيق التوصيات التشريعية والمصادقة على مقترحات القوانين. وربما تميزت القوانين التي تمت مناقشتها مؤخراً واقرارها بكونها قوانين من العيار الثقيل حيث انها ليست مجرد تشريعات تفصيلية بل هي من النوع التأسيسي الذي تترتب عليه جملة من الضوابط التشريعية الأخرى.بداية لا بد من التنوية أن ليس من حق المجلس التشريعي الحالي ان يقوم بسن القوانين فهو معطل بفعل الانقسام وهو في نظر المواطنين العاديين جزء من هذا الانقسام لأنه اولاً عجز عن إيقافه ولأنه بعد ذلك تواطأ في تثبيت أركانه. فالمجلس التشريعي ليس إلا أداة من أدوات الانقسام وحربة من حرابه. طبعاً كلنا يأسف لهذه الحال ولكن الواقع لا يتم تغييره للأسف. الامر الآخر أن سلطة المشروع ليست بلا قيود ومخطئ من ظن أن مجرد انتخابه من قبل الناس بإمكانه ان يصادر حرياتهم. فسلطة التشريع مقيدة بعدم انتهاك حقوق المواطنين وبعدم تجاوز العقد الاجتماعي الذي وفقه تنازل الناس عن حقهم في حكم انفسهم وانابوا عنهم من يقوم بذلك. وهذا النائب لا يمكن له ان يصادر حرية من منحه الحق بتمثيلهم. لذا فإنه في الكثير من النظم الديمقراطية، وحتى في الحالات التي يقر البرلمان قراراً بأغلبية ساحقة وتصادق عليه مؤسسات الدولة، يمكن لمواطن عادي يرى أن ما تم سنه من قوانين ينتهك حريته المكفولة بعموميتها في الدستور، ان يقاضي الدولة على ذلك.وعليه فإن السلطة الوطنية الفلسطينية التي لا دستور مقراً لها، لها نظام أساسي معدل، وإذا ما سلمنا ومن اجل الجدل البيزنطي الذي يرغب به البعض، ان من حق المجلس التشريعي في حالته الراهنة ان يسن القوانين، فإن مثل هذه القوانين لا يمكن له أن يتجاوز مواد النظام الأساسي ولا أن ينتهكها. كما أن ثمة بعض القوانين التي يقترح النظام الديمقراطي الحقيقي أن إقرارها يحتاج إلى اجماع وتوافق وليس أغلبية خاصة تلك القوانين التي تمس هوية المجتمع وتنوعه. والأزمة الحقيقية فيما يتعلق بتلك التشريعات التي تسن في غزة ان الحاجة لها لا تنبع من حاجة المجتمع المحلي وضرورات بقائه وتنظيم الحياة فيه بقدر كونها انعكاسا لتوجهات اكبر من تلك الحاجات وامتدادا لتصورات كبرى أوسع من حدوده.لذا اجدني قد اعترض على من يقول إن هذه "حمسنة" أو " أخونة" للمجتمع الفلسطيني في غزة لأنني قد لا أتضايق لو كان مثل هذه التشريعات نابعا من رؤية وطنية خاصة بحماس أو بأعضاء المجلس التشريعي حيث عليهم مثلاً ووفق عقد التمثيل الممنوح لهم ان يتصرفوا كممثلين للشعب وليس لشيء آخر، بل انا أتضايق لأن ثمة شخصا من كراتشي وربما آخر في الدوحة وقد يكون في الزقازيق او في شقة فارهة في لندن أو مدريد هو من يكون قد قرر أن علي أن أعيش بهذه الطريقة وأن احتكم لهذا التشريع. فالمجتمع الفلسطيني بكل مكوناته المسلمة والمسيحية هو مجتمع عربي وعاداته وتقاليده عربية بحتة وليست مستوردة، والعروبة هي أساس الإسلام ومنبعه ولم تكن الاخلاق والعادات التي سنها الرسول الكريم إلا من فطرة هذا المجتمع العربي، لذا فإن أحداً مهما كان لا يحق له أن يقول لهذا المجتمع عليك أن تفعل كذا وكذا.فأنا مثلاً حين أسمع ان قانون التعليم الذي أقرته حكومة حماس يمنع الاختلاط في المدارس لا يمكن ان أصدق أن أحداً يعيش في غزة وليس في برج عاجي، أي يختلط بالناس ويعرف واقعهم، يمكن له أن يقول إن مجتمع غزة لا يترك شاردة ولا واردة إلا يحدث فيها اختلاط بين رجاله ونسائه. للمجتمعات شفرة وراثية وخارطة جينية هي من تحدد قواعد السلوك فيها وهي من تحدد كيف يتصرف المجتمع وكيف تتشكل عاداته وطباعه. انظروا قانون التعليم الفلسطيني الذي أقر في غزة في شهر آذار الماضي كيف يتحدث في المواد 46 منه على الفصل بين الطلاب والطالبات في سن التاسعة ثم تعود المادة التالية 47 وتشير إلى أن الحكومة ستعمل على "تأنيث المدارس" وهي عدم عمل المدرسات الإناث في مدارس الذكور وعدم عمل المدرسين الذكور في مدارس الإناث. ناهيك عن تعريف القانون لغايات العملية التعليمية. كما يقرر مقترح قانون العقوبات اجراءات عقابية بعيدة عن روح القانون الفلسطيني. تشمل هذه عقوبات مثل الجلد (انظر الفقرة التي يوصف بها السوط) وقطع اليد والصلب والقصاص. ناهيك عن ان ما يتم وفق ما قالت القانونية والناشطة زينب الغنيمي هو البحث عن شكل وظاهر النص فقط. النتيجية الأولى لكل ذلك بجانب مضاره الاجتماعية هو تعدد القواعد القانونية المتبعة في القطاع والضفة وهو ما يعني التأسيس لمرجعيات تشريعية وقانونية يكون لها ترجمة سياسية في المستقبل. ثانياً أن هذه التشريعات ستصبح شوكة في حلق المصالحة لو تمت. ثالثاً أننا تدريجياً سنتحدث عن المجتمعين الفلسطينيين في الضفة وفي غزة. هذا بدوره، رابعاً، سيترك بصمة، ليست وراثية لسوء حظ أنصار هذه القوانين، على نسيج المجتمع الفلسطيني حتى داخل قطاع غزة. ويمكن سرد العشرات من النتائج لكن المصيبة الكبرى هي هذا الصمت الأسود والمعيب الذي يخيم على موقف الفصائل وكأن الأمر لا يعنيها. او كأن هناك حفنة من السذج الذين يعتقدون أن الأمر مجرد قانون ويتم محوه بممحاة القلم الرصاص لو تمت المصالحة. إنه ذات المنطق يا سادة الذي تركت فيه غزة فريسة للانقسام ولم تتم وفقه استعادة الوحدة الوطنية، منطق يعتقد بأن الوطن جثة يمكن تخديرها وإجراء التجارب عليها. هل ستفيق الفصائل من غفوتها. وهل من عاقل يصرخ بأن الحصان سيجتاز اسكدار!!.