في الأول من ديسمبر/ كانون الأول عام 2003 خرجت علينا مجموعتان من الفلسطينيين و”الإسرائيليين” ببيان أسماه الجانبان “وثيقة جنيف”، وأصرا على أنّهما تفاوضا وتوصّلا إلى تلك الوثيقة من دون تفويض وبشكل غير رسمي . ليس هذا هو المهم، بل من الممكن أخذ ذلك التوصيف على محمل الجد باعتبار أن الرسميين في الجانبين الفلسطيني و”الإسرائيلي” نأيا بنفسيهما عن الوثيقة . المهم أن الوثيقة طويت في أدراج الجانبين والباحثين، ولم يعد أحد يتكلّم حولها أو باسمها، مع أنه من المؤكّد أن مفاعيل مثل هذه الوثائق ليست صفراً، فهي يراد منها أن تطوّع الرأي العام لدى الطرف الأضعف، وتجعل الثوابت متغيرات، بانتظار لحظة ما، فلا تكون إعادة طرحها أو ما يشبهها صادمة لمن سمع مضمونها من قبل . يبدو أن “لحظة ما” هذه آن أوانها، فوفد الجامعة العربية أعاد قبل يومين إنتاج بعض محتويات “الوثيقة” عندما أعطى الأمريكيين موافقة على فكرة “تبادل الأراضي”، بين الجانبين الفلسطيني و”الإسرائيلي”، ما يعني إجراء تعديل على المبادرة العربية التي أقرتها قمة بيروت عام ،2002 وردت عليها “إسرائيل” قولاً باعتبار المبادرة “لا تساوي الحبر الذي كتبت به”، وعملياً قامت باجتياح الضفة وارتكبت مجازر بشعة، وبخاصة في مخيم جنين الذي سوّت معظم مساحته بالأرض، وبلدة نابلس القديمة التي دمرتها فوق رؤوس أصحابها ومسحت من الوجود آثاراً عمرها آلاف السنين . السياق الذي ظهر فيه الموقف الجديد للجامعة، لا يدفع لشيء سوى الاستغراب والدهشة، ليس لأن الجامعة تنازلت، بل لأن التوقيت لا يوحي بشيء ملائم لهذه الخطوة، ولأن الأجواء لا توحي بانفراج أو هبوب رياح “سلام” . المبادرة العربية الأصلية، وأي كلام حولها وأي حديث عن تعديلها، كلّه من المفروض أن يكون موجّهاً للطرف الآخر في ما تسمى “عملية السلام” . هذا الطرف لديه حكومة جديدة أشد تطرّفاً وعدوانية من كل سابقاتها . هذا الطرف، في اليوم الذي ظهر موقف الجامعة الجديد، نسف اتفاق التهدئة مع غزة وأغار عليها وقتل فلسطينياً على درّاجة نارية وليس في دبابة “تي 72” . هذا الطرف في اليوم نفسه أيضاً استدعى آلاف الاحتياط من جنوده لتدريبات لا معنى لها سوى الحرب، إلا إذا كان الرد على المبادرات السلامية العربية يحتاج إلى طقوس عسكرية . من الطبيعي أن يطرب جون كيري للمعزوفة الجديدة ويعتبرها “خطوة كبيرة جداً إلى الأمام” . لكن بما أنها خطوة، حتى لو كانت كبيرة جداً، فإنها ليست كل شيء، ويجب أن تتبعها خطوات أخرى . هذه المرة شطبت حدود ال 67 التي تتعلّق ب 22 في المئة من فلسطين التاريخية، وأخضعت مساحات من ال 22% ل “تبادل بالمثل”، وهذه لغة عقارات وليست لغة أوطان، ثم إن “إسرائيل” ستعطي أرضاً فلسطينية وتأخذ أرضاً فلسطينية، إضافة إلى أن الأرض التي ستبقى ل “إسرائيل” في إطار المبادلة هي المستوطنات، أي أن الضفة ستبقى ممزّقة على شكل كانتونات . ننتظر من منظمة التحرير الفلسطينية أن تقول شيئاً ولا أحد غيرها يملك حق التقرير بشأنه، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد، بقرار من الجامعة نفسها التي ولدت ميتة . “إسرائيل” سترحب بهذه الخطوة التي ستعتبرها ليست كافية وتحتاج إلى تطوير يشطب “حق العودة” ويستبدله بالاعتراف بيهودية “إسرائيل” . أما أمريكا الراعية لهذه العملية، فسينتظر العرب والمسلمون منها “وقفة لله” .