بعد زيارة قصيرة للسودان أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 راودتني فكرة أن أكتب سلسلة مقالات حول حقوق الإنسان ارتباطاً بواقع شعوبنا ودولنا العربية. وقد فوجئت كثيراً بأن هناك قوى سياسية ذات خلفية ومرجعية دينية، يمكن أن تراجع ليس فقط برنامجها وأدائها السياسي بل ومنطلقاتها الفكرية في العمل السياسي. وقررت أن يكون أول مقال مرتبط بالمعارضة القوية لفكرة حقوق الإنسان بين الأحزاب السياسية التي تحكم والتي تعارض في الوقت نفسه، فلماذا الهجوم دائماً على فكرة حقوق الإنسان ونشطائها ومنظماتها؟ وسأحاول في المقالات القادمة محاكمة كل ادعاء ارتباطاً بالواقع والتجربة العملية التي تكشف زيف وكذب الادعاءات، ومن ثم سأنتقل إلى استعراض الإمكانيات . لقد شكلت حقوق الإنسان ولم تزل مصدراً لكثير من الجدل الذي ما يهدأ حتى يثور من جديد بين مهاجم ومشكك فيما المدافعون قلة. ومن نافلة القول أن المشككين في غالبيتهم ينطلقون إما من جهل وقصور في الرؤيا والفهم أو للدفاع عن مصالحهم الخاصة على حساب المصلحة العامة، كمصلحة المجتمع بفئاته وطبقاته وشرائحه المختلفة، أو أن المهاجمين والمشككين وفي غمرة انفعالهم يذهبون إلى التعميم في حكمهم الذي قد ينطلق في أساسه من حكم على أشخاص بعينهم يرفعون شعار حقوق الإنسان. إن من يتمكن من فهم حقيقة المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، بعيداً عن المواقف السياسية لبعض الدول التي ترفعها فزاعة دائمة في وجه أعدائها وخصومها أو لتغيير أنظمة بعينها لا تنصاع لإرادة هذه الدولة، لا يمكن له أن يقف موقفاً معارضاً لهذه المنظومة التي تحمي حقوق الإنسان بغض النظر عن دينه أو جنسه أو أصله العرقي أو لونه أو طائفته. بل إن معايير حقوق الإنسان وثقافتها تتقاطع في جوهرها مع جوهر الرسالات السماوية كافة ومع الأصول لكل الأيدولوجيات الوضعية على اختلافها في العالم، لأن جوهر حقوق الإنسان تقوم على حماية الكرامة البشرية المتأصلة في الإنسان وضمان المساواة في تنظيم حياة المجتمعات والعلاقات داخل المجتمع سواء علاقات الأفراد بالسلطة أو علاقة السلطات ببعضها بعضاً، والتي لا يمكن أن تتأتى دون احترام جملة حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تضمن تحرر الإنسان من الفاقة والعوز بمفهومه الشامل. ولاشك في أن احترام الكرامة البشرية المتأصلة في الإنسان هو غاية الأديان وحرية وتحرر الإنسان هي كذلك، وحماية الضعفاء والفقراء وتأمين سبل العيش الكريم، فما هي المشكلة إذاً التي تدفع كثير من الأنظمة إلى التصويب دائماً على منظومة حقوق الإنسان ومؤسساتها، وحتى بعض الأحزاب المعارضة التي تستفيد سياسياً بطريقة أو بأخرى من عمل منظمات حقوق الإنسان ولاسيما المتعلق بكشف جوانب الانحراف في أداء السلطة، فما هو السبب الحقيقي إذاً؟ تنطلق بعض الأنظمة من الهجوم على منظومة حقوقاً الإنسان من زاوية الهجوم على بعض المنظمات أو النشطاء، وهو هجوم لا يمكن فهمه أو تبريره فصحيح أن المنظمات الحقوقية ليست منزهة عن الخطأ وكذلك هو حال نشطائها أو موظفيها، ولكن الحكومة عندما تكتشف ممارسات خاطئة، لا يجوز لها أن تلجأ إلى الهجوم الإعلامي وتعميمه على المنظمات كافة، فيما المخطئ بالتأكيد ليس الكل، ولأن النظام يملك من أدوات المتابعة والإشراف والرقابة على عمل المنظمات فهو إنما يدين نفسه عندما يخرج للإعلام لأن لدية أدوات بإمكانه من خلالها تصويب الخلل ومحاسبة المخطئين إن كان هناك مخطئين، إذاً فلا مبرر لأن تنتقد الحكومة المنظمات على الملأ وهي تملك القيام بإجراءات نظمها القانون فلماذا تحجم عن تلك وتلجأ لهذه؟ أنا أعتقد أن هناك سببين رئيسين للهجوم على منظومة حقوق الإنسان ولاسيما فيما تطلق عليه تسمية العالم الثالث، الذي تتخبط دوله منذ نشأتها بعد التحرر من الاستعمار في خمسينات القرن الماضي، ولم تنجح حتى اليوم من إقامة دولة المواطنة، بسبب فساد أنظمة الحكم فيها، فساداً وسع الهوة بين طبقاتها وفئاتها المختلفة فتجد الثراء الفاحش لدى مجموعة صغيرة من السكان، وفقراً مدقعاً تتوسع دائرته على الدوام في ظل غياب القانون وغياب دور الدولة الحامية للمواطن وحقوقه. ولأن التجربة في السنوات الأخيرة أشارت بشكل جلي إلى تزاوج السلطة ورأس المال في كثير من دول العالم الثالث وخاصة العربية منها، ما أسهم في تعزيز استبداد الأنظمة وتقويض أسس المواطنة فيها وجعل رأس المال أكثر توحشاً ولا يلقي بالاً لأي مسئولية اجتماعية، وبالطبع من يستفيد من ذلك هم طبقة الحكم كانت عسكراً أم مدنيين، كانت حزباً أم ائتلافاُ وبغض النظر عن المرجعية الفكرية كانت دينية أم غيرها، فالاستبداد لا دين له. وبالنظر لأن حقوق الإنسان ومعاييرها تفرض - كشرط لاحترامها - أولاً أن تتمتع الشعوب بحقها في تقرير مصيرها، وبأن الحكم يجب أن يقوم على أساس سيادة القانون والفصل بين السلطات، واحترام التعددية السياسية، وحماية حقوق الأقليات. وهي تفرض على الدولة القيام بواجبها تجاه المواطن فمن لا يجد عملاً على الدولة أن تمكنه بالتدريب والتأهيل، وتسعى دائماً إلى خلق فرص عمل جديدة تستوعب العمالة والزيادة السنوية في أعداد العاملين، أو فإنها ملزمة بحمايتهم من غول البطالة وتمكينهم وأسرهم من العيش بكرامة. كما أن التعليم الإلزامي والمجاني الذي يراعي معايير حقوق الإنسان هو من واجب الدولة وكذا حق الإنسان في الرعاية الصحية والسكن المناسب والضمان الاجتماعي وغيرها من الحقوق هي من واجبات الدولة وإلا فلماذا تجني الدولة الرسوم والضرائب وتجني عائدات الثروات الطبيعية كافة، ولماذا تتحكم في مقدرات البلاد؟ أنا أعتقد أن المشكلة هنا تكمن في أن معايير حقوق الإنسان تفرض واجبات والتزامات واضحة ولا لبس فيها توضح مسئولية الدولة تجاه احترام حقوق مواطنيها والمقيمين على أراضيها، وهنا يبدأ صراع ليس فقط على شكل الحكم بل وعلى الثروات والموارد بين منظمات تهدف إلى توجيه المال العام واستثماره بما يخدم المجتمع ويحمي كرامة مواطنيه، وبين حكم يحاول المتنفذون فيه الاستحواذ على هذه الثروات لأنفسهم أم لأحزابهم هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن حقوق الإنسان تفرض ضمانات لحماية الحقوق المدنية والسياسية وبالتالي فهي تحمي المعارضة السياسية بمكوناتها المختلفة وتغل يد الحاكم وتمنعه من الاستفراد بخصومه والاستبداد بالحكم، ما يفضي إلى انتهاك جملة حقوق الإنسان واستنفاذ الثروات الطبيعية ويحول دون إحداث تنمية من شأنها أن ترتقي بواقع المجتمع والدولة. أعتقد أن الخصومة مع فكرة حقوق الإنسان تعود للسببين الذين سبقت الإشارة إليهما وإلا، فهل هناك من قوة سياسية أو حزب يعارض حق الشعوب في تقرير مصيرها، أو حقها في الكرامة الإنسانية المتأصلة، أو يرفض مبدأ المساواة بين بني البشر، أو يرفض مكافحة الفساد، أو يتنكر لواجب الدولة في القضاء على الفقر والجهل والمرض، أو أهمية ضمان الوصول للعدالة للأفراد والجماعات ...؟ أنا أعتقد جازماً أن لا أحد يمكن أن يجهر بمعارضة هذه المبادئ والقيم بدليل أنها متضمنة في دساتير معظم الدول المستبدة ولكن ومن منطلق قصور في الرؤيا يجري تغليب مصلحة الحاكم الحزب أو الفرد على مصلحة المجتمع التي هي بالمعنى الاستراتيجي مصلحة للحاكم وحزبه، ويجري الهجوم على فكرة حقوق الإنسان من منطلقات لا علاقة لها بالواقع بل هي منطلقة من صورة اذبة تختلقها هذه القوى وتسعى إلى ترويجها.