.داخل الأسرة يتعلم الإنسان ما يعكس واقعه وواقع البيت الذى تربى فيه، وتظهر نتائج تلك التربية على سلوكه مع الناس عندما يختلط بفئات وأشكال مختلفة من التركيبة المجتمعية، ومن لم يحسن البيت تربيته يربيه المدرس والتجارب، وعادة ما نجد الناس يمدحون الأب والأم والمدرس إذا حسن سلوك الفرد وتعامل بأدب مع كل من التقى به،يصفونه بالمؤدب والمحترم و«المتربي»، ويقولون «ان أهله تعبوا عليه»، وهنا نجد أن التربية مكلفة، لها ثمن، ولها مردود وقيمة، بينما سليط اللسان، الذى قد يستخدم العبارات غير اللائقة فى مواجهة الناس، والذى لا تردعه أخلاق أو اعتبارات أو ذمة أو دين، ذلك استقى علمه وحديثه وثقافته من أدنى مراتب المجتمعات، ووصفته الناس بالسوقى، أى انه تربى وأخذ من الفاظ السوق حيث يختلط الحابل بالنابل، وهذه مكتسبات رخيصة ليس بين العامة من لا يعرفها ويحفظها، ولكن الفارق بين «المتربي» و«غير المتربي» اللجوء إليها من عدمه.وفى هذا الزمان، مع الفوضى المدمرة التى اخترعها أصحاب الفكر الاستعمارى ضد هذه الأمة ، أصبحت البذاءة شجاعة، وقلة الأدب جُرأة، والتطاول ضد الأشقاء والأصدقاء وتجريحهم مواقف ومبادئ، أصبح الصغار عمالقة، والكبار يُقذفون بالحجارة، صور تتبدل، مواقف لا تستقر، وثوابت تداس تحت الأقدام، إنه زمن «الهلافيت»، أولئك الذين كانوا حتى وقت قريب لا يعرفهم أحد، واعتقدوا اليوم بأنهم أصبحوا نجومًا، لأنهم استرخصوا الحوار والنقاش، حتى آذوا أسماعنا ونفوسنا، وركبهم الغرور، ظنوا أنهم كبروا وهم مازالوا يصغرون، وفاحت من حولهم رائحة العفن، لم تطهرهم الملابس البراقة ولا لمسات الصالونات.ومع ذلك، كل ذلك، تبقى تلك شريحة منحرفة من بين الأغلبية الشريفة فى هذه الأمة، فمازال هناك أولئك القابضون على الجمر، الذين لم تغرهم الأوراق الخضراء، ولم تفت من عزيمتهم المعاناة، أمل الأمة، من لا يتبعون فئة أو طرفًا أو جهة أو تنظيمًا، الواقفون مع الحق، والحافظون للجميل، والعارفون بأهداف الأصدقاء قبل الأعداء، فاليوم قد يبيعك الصديق فى لحظة، وقد يخونك الشقيق دون تردد، ولكنهم يبقون قلة، لا يمثلون إلا أنفسهم، ومن الجائر اعتبارهم يمثلون أوطانهم، فالأوطان لا تُحمل وزر الأفراد، هى أكبر منهم، وهى دائمة وهم زائلون، وقد نستغرب من شخص تأخذه العزة بالإثم، وباسم الوطنية يتطاول على بلد شقيق لان أحد أبناء ذلك البلد كتب أو قال ما لا يعجبه ضد وطنه، فضاعت الحجة عندما واجهته ردود الأفعال على ما قال، وتاهت الكلمات التى علمه اياها اساتذته من أبناء ذلك البلد، وعاد إلى أصله، إلى المنبع، إلى تربيته، وباعنا ما لا يباع، استفرغ من جوفه كلامًا لم يبذل الذين تربى لديهم جهدًا ليعلموه إنه «عيب».اعرف ان مصر لا تحتاج إلى من يدافع عنها، ليس لأنها كانت قبل آلاف السنين صاحبة حضارة عظمى، لا، بل لأنها اليوم هى الأمل، وغدًا هى الرجاء، وان ابتليت فى لحظة سكينة فستنهض أكثر قوة وعزمًا بإذن الله، ويعود عطرها يفوح لينعش الأمة كلها، ويشع ضياؤها من جديد لينير دروبنا، بكل ما تملكه مصر من تراث تراكم عبر العصور، بناسها الذين لا يضاهيهم أحد فى طيبتهم، وفى إخلاصهم، وفى حبهم، وأيضًا فى غضبهم، وبحواريها التى لا تتكرر فى أى بلد على وجه البسيطة، وبعلمها وعلمائها، وبعادتها وتقاليدها، وبأكلها، المذموم والممدوح من أكلها، ابتداء من أحلى طعمية فى الدنيا وانتهاء بفولها، مرورًا بمائها الذى يسحر كل من يشربه.