هل يوجد حقاً شيء اسمه إسلام سياسي؟ وإذا كان هذا الإسلام السياسي ظاهرة، فهل هو ظاهرة واحدة متعددة الاوجه ام أنه مجموعة من التمظهرات المختلفة لفكرة ذات أصول واحدة؟ لقد درجت العادة على إطلاق مصطلح الإسلام السياسي على التنظيمات التي تستخدم الدين الإسلامي مرجعية في افكارها للوصول للسلطة. المصطلح ظهر في الأساس في الدوائر البحثية الغربية، وهو بحاجة للكثير من المراجعة والتدقيق، لكنه اخذ جواز سفره مع الحكم الديني في إيران وتصاعد حالات إحياء استخدام الدين في الاحزاب السياسية في المنطقة العربية، وبالتأكيد مع نجاح التجربة التركية. ومع صعود الاحزاب الدينية على إثر الانتخابات التي اعقبت الإطاحة ببعض النظم العربية خاصة في تونس ومصر وليبيا، فإن البحث في مستقبل هذا الإسلام السياسي أخد اكثر من منحى. لم يغب يوماً عن النقاش استحضار حالات مثل التجربة الماليزية والصراع في باكستان والسودان. في حقيقة الامر ثمة ملاحظتان هنا، واحدة مفاهيمية والثانية إجرائية. فمن حيث المفهوم فمن المشكوك فيه ان ثمة تشابها كبيرا بين كل تلك الحالات التي يشار إليها بالإسلام السياسي، وهذا ما يقود إلى المشكلة الإجرائية التي تجعل تحليل كل إسلام سياسي مرتبطا بالسياق السياسي الخاص به. فالإسلام السياسي التركي لا يمكن فهمه دون فهم الصراع على هوية المجتمع وليس على مؤسسات الدولة، وفي إيران فإن فكرة الثورة وتصديرها ارتبطت اكثر بالمذهب الشيعي، ويمكن سحب الامر على مجمل التكوينات السياسية الإسلامية. وهو ما يقود إلى سؤال هذا المقال: هل يوجد شيء واحد اسمه إسلام سياسي!! تعثر الإسلام السياسي بطبعته العربية بشكل لافت ولم يفلح في أي من المواقع التي صعد فيها للحكم في تقديم تجربة نجاح واحدة من غزة مروراً بالقاهرة وانتهاء بتونس وغيرها من مدن الربيع العربي. وربما يكون من المبكر ان يصدر مثل هذا الحكم إلا أن واقع الحال لا يقترح بأن النجاح المرتقب بات قريباً فعوامل الفشل ومظاهره تجري في نهر التجربة وتصبغها بلونه. ثمة العديد من العوامل التي يمكن لها أن تفسر هذا الفشل ويمكن للبعض ان يبتدع اعذاراً ويوزع تهماً على اطراف مختلفة بأنها عملت على تقويض التجربة. لكن التعمق والتبصر في حقيقة الامر يعود بالتحليل إلى كنه ومضمون الإسلام السياسي في المنطقة العربية ووضعه لنفسه منذ اللحظة الاولى لميلاده في حالة تصادم وعداء مع الدولة الوطنية وبرامجه الإحلالية لهذه الدولة، فهو يريد أن يهدم كل شيء لكي يبدأ كل شيء بنفسه. فالدولة الوطنية ومؤسساتها مستوردة وهو وإن استغل الديمقراطية والتعددية وروح الثورة الجماهيرية فلكي يتمكن من القفز إلى سدة الحكم. طبعاً لم تكن تجربة الإسلاميين مع الدولة الوطنية التي نشأت بعد تحلل الاستعمار في المنطقة العربية (الاستعمار المادي) ايجابية فهم تعرضوا للسجن والملاحقة في فترات طويلة بسبب خلافهم وعملهم ضد الدولة وتصادمهم مع نخبها. وكان هذا التصادم في جوهره مكمن الازمة التي تستمر حتى الآن والتي تأخذ طابع عدم الثقة وفي مرات عدم الثقة المفتعل. فالإسلام السياسي لم يتعرض للملاحقة صدفة مثلاً في مصر إلا بعد حادثة المنشية الشهيرة ومحاولة اغتيال عبد الناصر. وبعجالة فإن الإسلام السياسي وضع نفسه في حالة تصادم مع الدولة الوطنية الحديثة انطلاقاً من أنها ليست الوريثة الشرعية لدولة الأمة التي مزقها الاستعمار. في المقابل، نجحت تجارب الإسلاميين في تركيا وإيران وماليزيا وغيرها ولأسباب مختلفة. في تركيا لم يختلف الإسلاميون على الدولة ولم يناطحوا الدولة ويطالبوا بتغييرها بل إنهم وافقوا على قواعد اللعبة السياسية وقدموا مقاربة مختلفة لم تمس فكرة الوطنية التركية كما يرغب الإسلاميون العرب. بل إنهم بحثوا عن سبل استخدام هذه القومية في تعزيز فكرتهم. عرف أردوغان العلمانية بطريقة جريئة في خطابه في جامعة القاهرة بأنها أن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها. لقد بحث المفكرون الإسلاميون الأترك امثال فتح الله جولن عما يميز الإسلام في تركيا عنه في المنطقة العربية وفي منطق الفرس وكان الجواب في طبيعة الدولة التركية وديمقراطتيها. يقدم راينر هيرمان في كتابه "تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية: الصراع الثقافي في تركيا" تحليلاً عميقاً حول ذلك. في المقابل وفيما لم تحقق التجربة الإيرانية الديمقراطية إلا أنها بنت الدولة بطريقة معاصرة وطورت من قدراتها العسكرية مستخدمة أيضاً القومية الفارسية في تعزيز هوية الدولة. في ماليزيا أيضاً نجحت التجربة في إحداث تقدم اقتصادي وتعزيز لبنية الدولة. وخلال كل تلك التجارب كان ثمة نقاش وجدل فكري واطروحات مختلفة حول الدين والسياسة والاقتصاد من أربكان وجولن واردوغان نفسه في تركيا وشريعتي والخميني في إيران ومهاتير محمد في ماليزيا. الخطر في مثل هذه المقاربة انها تفترض ان الإسلام السياسي يمكن له ان ينجح في اغلب الحالات إلا في الحالة العربية. وكما اقترح "سبيزوتو" عند مناقشة المقاربة الثقافية لعلاقة الإسلام بالديمقراطية متسائلاً: كأن ثمة دينا مع الديمقراطية ودينا آخر ضده. لكن الخوف من هذه المقاربة لا يمكن له أن يعمينا عن حقيقة فشل الإسلام السياسي العربي في خلق التنمية ولا في تمكين الدولة وتحقيق النهضة الاقتصادية او العسكرية حتى لمواجهة التحديات ولا في خلق نظام حكم ديمقراطي يحتذى به. المؤكد حتى انه داخل التجربة العربية ثمة حالات اختلاف بين إسلام سياسي في هذا البلد وإسلام سياسي في ذاك، فالتجربة الفلسطينية تختلف عن المصرية كما تختلف الاثنتان عن المغاربية وعن السودانية. إن أهم المغالطات النظرية التي يتم الوقوع فيها بسبب وقوع التحليل ضحية هذا الارتباك المفاهيمي هو القول ان الإسلام السياسي في البلد الفلاني يمكن له أن ينجح لأن التجربة التركية نجحت في كذا وكذا. لا يعدو الأمر أن يكون اكثر من تفكير رغبوي. لأن الحقيقة تدلل على أن الإسلام السياسي العربي يجب ان يبحث عما يميزه ويعمل ضمن التطلعات العامة لمواطني دولته لا ضمن رؤية أممية شمولية تتجاوز حاجات المواطنين واحلامهم. فقط عندها يمكن للإسلام السياسي العربي أن يكون عربياً اولاً واخيراً كما هو الإسلام السياسي التركي تركياً ولا شيء آخر والإيراني فارسياً. فلا شيء اسمه إسلام سياسي ونقطة.