خبر : سِلاحْ السخْرية ...خيري منصور

الإثنين 15 أبريل 2013 11:05 ص / بتوقيت القدس +2GMT
سِلاحْ السخْرية ...خيري منصور



قد يكونُ أوّل رَسْم كاريكاتوري في التاريخ مصرّياً من العصر الفرعوني، وهو عن أسد يلعب الشطرنج مع أرنب . وما أعطى هذا الفن نفوذه السياسي فيما بعد هو أن السّخرية، كما يقول جورج لوكاتش، هي أداة مقاومة بامتياز، وقد تكون سلبية إلى حدّ ما، أو في خانة أضعف الإيمان، لكنها تمارِس تأثيرها في الوَعْي وعن طريق الإيحاء، لهذا كان هناك على الدوام اقتران بين فن السخرية والاستبداد . وما النكتة السياسية السوْداء إلا من إفراز مناخات ملبّدة بالكَبْت والحِرْمان من حرّية التعبير . فالشعوب لها سنام تلوذ به كاحتياطي، لكن ليس على طريقة البعير الذي يستدعي هذا الاحتياطي إذا جاع إلى الطعام، فالشعوب تَلْجَأُ إلى احتياطياتها عندما تعاني جوعاً إلى الحرية، وترفض أن الإنسان يمكن له أن يعيش بالعَلَفِ وحده، أو أنه كالحيوان يعيش ليأكل وليس العكس .  السخرية، من تجليّات الذكاء الدفاعي عن النفس، لأنها في حالة الاستبداد تحاول تَسْفيه وَتَضْئيل الديكتاتور، بحيث يفقد هَيْبَته المُسْتعارة من أوْهام القوة ورواسب الأساطير .  ورغم الرّقابة الصارمة في المرحلة النازية التي تجسدت في “غوبلز”، وكذلك في المرحلة الستالينية التي أصبح مثالها “جدانوف”، إلا أن تلك الصرامة لم تحل دون السّخرية كتعبير سلبي عن الشعور بالاضطهاد، ونذكر للمثال فقط أن الروائي الألماني ريمارك كان ينشر إحدى رواياته باسم مستعار، وحين قرأ غوبلز أول فصل منها أخذ يزبد ويتوعد وأقال الرّقيب المختص من منصبه، لأنه استطاع التعرف إلى ريمارك من خلال أسلوبه وعرف أن الاسم الذي يَنْشُر بِهِ مُسْتعار .  وهناك حالات نادرة عَبّر بها زعماء عن شعورهم بالسعادة، وهم يشاهدون رسوماً كاريكاتورية تسخر منهم، منها ما قاله الزعيم عبد الناصر في آخر مؤتمر صحفي قبيل حرب حزيران لمراسل صحيفة “ديلي نيوز”، فقد قال له بالحرف الواحد . . إنه “يقرأ الصحيفة منذ أعوام عدة، وحين لا يجد فيها رسماً كاريكاتورياً يسخر منه أو من أحد مواقفه يراجع نفسه”، فتلك الرسوم هي البارومتر الذي يقيس منسوب انسجامه مع نفسه وشعبه ومواقفه، لكن على نحو مَعْكوس .  وازدهار السخرية في مراحل مُعَيّنة له دلالاته السياسية والثقافية، وقد يقال إن لهذا الفن بعداً سلبياً هو التنْفيس عن الغَضَب، وبالتالي إفراغه من شحْنَته . لكن الحقيقة أن هذا الفن له قوة الاخْتراق، بحيث لا يتوقف عند المفارقات أو مجرد الضّحك، وَمِصْرُ من أكثر بلدان العالم التي حَوّلت الكوميديا إلى سلاح، سواء في فن الكاريكاتور أو المسرح أو الأغاني الشعبية، وَيُروى عن سيد درويش أنه كتب عن سعد زغلول أغنيات سياسية تمجّد موقفه، رغم أن اسم سعد كان محظوراً في وسائل الإعلام، ما اضطر سيد درويش إلى استخدام اسم نوع شهير من البَلَح في مصر هو الزّغلول .  وحدث هذا مراراً في فلسطين خلال أطول إضراب في التاريخ في ثلاثينات القرن الماضي، ونشر الشاعر نوح إبراهيم عشرات القصائد من هذا الطراز الذكي السّاخر .  لهذا، فالسّخرية تثير من البكاء ما يعادل الضحك أو يتخطاه، لأنها مقاومة بامتياز .