خبر : رصاص اللغة، رصاص المسدس ..بقلم: د. خالد الحروب

الإثنين 24 ديسمبر 2012 06:42 م / بتوقيت القدس +2GMT
رصاص اللغة، رصاص المسدس ..بقلم: د. خالد الحروب



"إن من يقول قولك هذا أو قريبا منه فهو إما زنديق وإما مستهزئ بكتاب الله وسنة رسوله، ولكل من هذين حكمه المعروف في الإسلام!". بهذه الكلمات الحاسمة الصارمة القاتلة أنهى سائل سلفي غاضب سؤالاً سريعاً، او بالأحرى القى تهديدا واضحا، في وجه ابراهيم عيسى، الكاتب والصحافي والروائي المصري المعروف، وذلك في سياق ندوة عن روايته "مولانا" نظمتها دار بلومبزبري - قطر في معرض الدوحة للكتاب. الترجمة العملية للمداخلة المتعصبة هي احلال دم الكاتب. اللغة الرصاصية التي لا ترحم هي العتاد الذي ينتظره متعصب اهوج لا يدخل معارض الكتب ولا يحاور الكتاب، بل يتلقف رصاص اللغة فيحشو به مسدسه المتأهب بوهم "الانتصار لدين الله" ضد كاتب هنا أو فنان هناك. رصاص اللغة الذي اطلقه الشيخ محمد الغزالي ضد فرج فوده وفُهم من قبل توافه المتعصبين بأنه تحليل لدمه هو الذي تحول الى رصاص فعلي أردى الكاتب قتيلا. رصاص اللغة الدموي الذي اطلق ضد نجيب محفوظ وعلى نصر حامد أبو زيد هو الذي شحذ السكين التي استخدمها مهووس لاغتيال الاول، وشحذ القضايا التي رفعها مهووسون آخرون ضد الثاني ليفصلوا بينه وبين زوجته طاردينه خارج مصر الى ان يموت بعيدا عنها. ابراهيم عيسى، وكأمثلة من سبقوه، ينطلق في ما يقوله سواء في مقاله، او برنامج تلفزيوني أو رواية، كما في حالة نص "مولانا"، من مرجعية الدين، وهو لا يخرج عنها. يثور على وعاظ التلفزيونات وتجار الدين والمتعصبين من المفسرين ويدعو الى اسلام رحب يتسع للناس ولا يطردهم، يرأف بهم لأنهم عيال الله، ولا يعتبرهم مجرمين فاسقين ما لم يثبتوا العكس. يدير في روايته الاخيرة حوارات بالغة العمق وعلى ارضية دينية وفي اطار درامي شيق دفع بمحكمي الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) لهذا العام لاختيار روايته ضمن القائمة الطويلة (التي تتضمن 16 رواية من اصل ما يقارب 130 رواية). يعود للنص القرآني والحديث ويستشهد بروايات موثوقة من عهد الصحابة الاول ليدحض مقولات وقناعات ويبرئ الدين منها، وليقول لقارئه إن ما تراكم من تفسيرات وعادات واستثمارات سياسية وتوظيفية للدين هي ليست من الدين. يقدم لنا في الرواية داعية تلفزيونيا، هو شخصية الرواية المركزية، يتمزق بين ضميره الديني من جهة ومصلحته المادية والمباشرة من جهة اخرى، والتي تفرضها شروط "البزنس" من التزام بشروط المنتج لضمان الارباح وسيل الدعايات، وما يريده مالك القناة الدينية، والحدود التي ترسمها السلطة السياسية وسوى ذلك. رصاص اللغة باتهامات الزندقة والتكفير والمروق من الدين والتخوين يصوب هنا على كاتب يتمسك بمرجعية اسلامية، وجهده "وجهاده" يتمحوران حول محاولة اقناع مخالفيه من المتعصبين ان يقبلوا رأيه في فضاء الآراء الاسلامية، وان يتواضعوا بدورهم ويعتبروا رأيهم "رأيا" من الآراء وليس "الرأي" الاول والنهائي في الدين وبـ "أل" التعريف القاصمة. اذا كان هذا هو حال من ينطلق من المرجعية الاسلامية فأين يقع اولئك الذين لا ينطلقون من المرجعية الاسلامية في الشأن العام ويقولون بضرورة فصل السياسة عن الدين، وعدم تديين السياسة وتسييس الدين؟ رصاص اللغة الذي يزداد لعلعة هذه الأيام في كثير من الخطاب الديني المتشدد يقودنا إلى دمار داخلي طالما ظل يصر على احتلال موقع توزيع صكوك الايمان والكفر على الناس. رصاص اللغة الذي قد يصدر عن دعاة وشيوخ معروفين لن يتوقف عند اللغة، بل ستتحول حروفه الى نار حقيقية يتلقفها افراد لا يجيدون استخدام اللغة ولا حتى استخدام الدين، بل يجيدون استخدام المسدس والقنبلة. ومحاربة رصاص اللغة ومحاصرته هي مسؤولية رجال الدين بالدرجة الاولى وخاصة العقلاء منهم. وهي مسؤولية الجميع ايضا عبر تسليط الضوء على خطورة اللغة الاقصائية والمدمرة والممهدة للدم. مسؤولية علماء الدين، كما غيرهم، تقع في المهمة الطارئة والعاجلة على مستوى العقل المسلم كي تحرره من سجن السذاجة الباحثة عن الحكم السريع في توصيف وتصنيف البشر وحشرهم في مربعات الاسود والابيض. رصاص اللغة يحسم كل ما هو رمادي ومعقد في حياة البشر ويجب ان يظل رماديا لأن لا أحد يمكنه الزعم بأنه يمتلك الحقيقة او التفسير النهائي او الحكم المطلق. رمادية الحياة والمبادئ والعقائد والتجارب التاريخية (اي كل المساحة الواسعة لـ "لا تسألوا عن اشياء إن تبد لكم تسؤكم") هي الزيت الذي يبقي على عجلة المجتمعات صالحة للعمل ومتواصلة. كل الآراء والتنظيرات والتفسيرات ميدانها المنطقة الرمادية، وهناك تدافع عن نفسها، وتحاور غيرها من الآراء، وتحاول ان تثبت انها الافضل، لكنها تنطلق من نقطة اساسية وجوهرية هي قناعتها بأنها رأي من الآراء، وليست الرأي الحاسم. لأنها لو اقتنعت بأنها رأي الدين، وليست رأيا في الدين، فإن ذلك يترتب عليه احكام وتبعات وسياسة وتنفيذ. وهو تنفيذ اختصر من القلب واللسان، الى اليد والرصاص مباشرة في ايامنا هذه. رصاص اللغة ينطبق ايضا على غير الاسلاميين. اولئك الذين اعتدوا وحرقوا مقرات حزب العدالة والتنمية في مصر، لا يختلفون عن الاسلاميين الذين اعتدوا وحرقوا مقرات حزب الوفد وغيره من الاحزاب الوطنية والليبرالية. لكن الخطر يكون متفاقما اكثر في حالة التوظيف الاسلاموي لرصاص اللغة، لأنه في هذه الحالة يقف على ارضية دينية، ويقدم المسوغ الديني، وعندما تصل حلقات بناء الممارسة المتطرفة الى الحلقة الاخيرة حيث التنفيذ واطلاق الرصاص فإن مُطلق الرصاص يعتبر فعلته جهادا يدخله الجنة، لذلك تكون حميته في القيام بالممارسة فائقة ومتجاوزة لكل حمية وحماس اي من منافسيه الذين قد يتورعون (للمفارقة) عن القيام بنفس الممارسة بسبب صحوة ضمير وطني، او تردد في اللحظات النهائية، او سوى ذلك. والمفارقة الكبرى والمحزنة تصير بالتالي ان رصاص اللغة عندما يتحول الى رصاص مسدس في حالة الخطاب الديني يكون اكثر جراءة في التنفيذ، وتتلبسه حالة من ارتياح الضمير الديني باعتباره يقوم بواجب يجازى عليه. لنقف جميعا ضد رصاص اللغة، وإلا سقطنا جميعا ضحايا لرصاص المسدس. Email: khaled.hroub@yahoo.com   كاتب وأكاديمي فلسطيني