ليست المرة الأولى التي تتعثر فيها الحكومة بدفع الرواتب, وليست أول مرة يعتدي القرصان الإسرائيلي على الأموال الفلسطينية, وقد أصبح هذا السلوك جزءا من العلاقة بين الطرفين ، فمنذ شباط الماضي اتخذت حكومة نتنياهو قرار وقف تحويل أموال الفلسطينيين ولم تفرج عنها سوى بنذر انتفاضة شهر سبتمبر الماضي حين خرج مواطنو الضفة الغربية إلى الشوارع احتجاجا فتراجعت إسرائيل تحت وطأة الخوف أن تكون تلك التظاهرات مقدمة لانتفاضة ضدها لتفرج عن الأموال. وإن كان مجموع ما تحتجزه إسرائيل حوالي ثمانون مليون دولار وهي لا تشكل سوى ثلث فاتورة الرواتب من حق أي مواطن أن يسأل عن الثلثين الآخرين وعن واردات الضرائب المحلية فاعلان الحكومة إفلاسها بهذا الشكل الذي تظهر فيه على شفا الانهيار الاقتصادي مع أول عملية سطو إسرائيلية ربما بطرح كثير من التساؤلات حول إدارة هذه الحكومة للموارد وعجزها عن الصمود شهر واحد وكيف يمكن مواجهة إسرائيل إذا كان الأمر بهذه الهشاشة؟ هل المسألة حقيقة إلى هذه الدرجة من الانكشاف والعجز عن توفير احتياط موازنة لشهر واحد أو شهرين كما تفعل الحكومات الأكثر سوء في الإدارة في حين تباهي الحومة الفلسطينية بقدرتها الهائلة وإعجاب المؤسسات الدولية؟ أم أن الحكومة تفتعل الأزمة بهدف الضغط على الجهات المانحة والولايات المتحدة وإسرائيل؟ لا يبدو الأمر بهذا الشكل وخصوصا يجري الحديث عن عجز مالي تجاوز المليار دولار وهذه الأزمة تجعل من السؤال عن جدوى استمرار الحكومة هو سؤال مشروع. اعتاد الفلسطينيون على إلقاء كل مبررات أزماتهم على إسرائيل حتى الخلافات الزوجية وأسباب الطلاق فلماذا لا تكون الحكومة جزء من تلك الموضة السائدة؟, فهي حكومة قبلت على نفسها إدارة الوضع الفلسطيني بهذا الشكل الشاذ وتحت الاحتلال, فالرواتب لا تخص موظفي الحكومة وحدهم بقدر ما أنها المحرك الرئيس لعجلة الاقتصاد التي يتضرر منها سائقو التاكسي والتجار وعائلات الشهداء والجرحى والحالات الاجتماعية وليس فقط الضفة الغربية بل قطاع غزة أيضا, فالحد الأدنى لعمل أية حكومة هو توفير رواتب موظفيها وحين تعجز عن أداء الحد الأدنى عليها أن تعلن عجزها وتسلم رايتها, أما أن يكون الخبر الرئيس لوسائل الإعلام على مدار عام كامل هو الرواتب وموعدها والتحويلات المالية وإضراب الموظفين فهذه تصبح حالة كاريكاتورية. فحكومة لم تعد خطتها الاحتياطية في حالة مواجهة بسيطة مع إسرائيل ويظهر انكشافها بهذا الشكل مع أول معركة فهي أعجز من تستمر بإدارة الشأن الفلسطيني في أكثر مراحله صعوبة, أن تنتظر التحويلات من إسرائيل رغم أهميتها كان يجب أن تعرف أن هذا السلاح سيستخدم ضدها في أية لحظة وأن تستمر معلقة الوضع الفلسطيني والاقتصاد الفلسطيني على خشبة الوعود العربية يبدو أنها لم تقرأ تاريخ الدعم العربي للقضية الفلسطينية. قبل ثلاثة عقود وأثناء حصار بيروت تقدم الوسيط الأميركي فيليب حبيب لقائد الثورة حينها ياسر عرفات باقتراح خروج القوات المقاتلة من لبنان, استدعى رئيس منظمة التحرير قائده العسكري سعد صايل وسأله كم نستطيع الصمود؟ فرد صايل " لو تحركت قوات عربية من الرباط سيرا على الأقدام نستطيع الصمود حتى تصلنا....! ثم استدرك أبو الوليد بمرارة ولكنها لم تتحرك حتى اللحظة" فكان قرار الخروج الشاهد الأبرز على حالة العجز العربي. قد يتغير الأشخاص وتتغير أحداث التاريخ ولكن نفس السؤال قد يعيده أبو مازن على وزير ماليته نبيل قسيس" كم نستطيع الصمود يا نبيل" ليعود الأخير ويعطي إجابة أبو الوليد قبل ثلاثين عامل" حتى تصل الأموال العربية ..ولكنها لم تصل بعد" هو نفس المشهد الذي يتكرر حين يتعلق الأمر بفلسطين ويترك الفلسطيني كما كل مرة وحيدا عاريا من المساندة أمام آلة الذبح وفقيرا من الأموال أمام لصوصية إسرائيل. صحيح أنه منذ أكثر من عام وعدت الدول العربية بتوفير شبكة أمان مالية للسلطة بمائة دولار شهريا ولكنها لم تتحرك بعد.., فالمال العربي في العامين الأخيرين كان يتحرك بسرعة هائلة حين تعلق الأمر بالقذافي ولا زال يدفع بسخاء كبير ضد بشار الأسد ولكن حين يتعلق الأمر بنتنياهو وإسرائيل تصبح حكمة العرب" في التأني السلامة" وإذا لم تكن الحكومة تعرف ذلك وتتكئ على هذه الحالة بالرغم من التجربة الطويلة فهذه مشكلة الحكومة. اتخذت السلطة في الأسابيع الأخيرة مسارا صداميا ضد إسرائيل وكان المتوقع أن توقف تحويل الأموال فهذا أول وأسهل إجراء بيد حكومة نتنياهو ووزير ماليته شتاينتس صاحب الاقتراح منذ عشرة أشهر بالرغم من معارضة جهاز المخابرات خوفا من ربيع فلسطيني في الضفة يبدأ من أزمة الرواتب وانهيار الاقتصاد وبات من الواضح أن شكل العلاقة مع إسرائيل سيذهب أكثر باتجاه الصدام حين تصبح السلطة عضو بمحكمة الجنايات الدولية وبالتالي لن تعود أية تحويلات مالية من إسرائيل بعد ذلك ،وإذا كانت المائة مليون دولار الأولي من الدول العربية أخذت كل ذلك الوقت من النقاش والتفكير والأخذ والرد ولم تصل بعد هذا يعني أننا أمام انهيار اقتصادي من حق الفلسطيني أن يسأل حكومته عن خطة المواجهة التي أعدتها الحكومة هذا إذا كانت أعدت أصلا. إذن الفلسطينيون أمام ورطة كبيرة وأمام حالة ابتزاز إسرائيلية غير مسبوقة, وهم الذين صاغوا اتفاق العلاقة مع إسرائيل بهذا الشكل ما دامت إسرائيل تخل بالتزاماتها فإن ذلك يعطيهم فرصة للتنصل أيضا من تلك الالتزامات وأولها العلاقة الأمنية وطالما أن الولايات المتحدة تصمت على القرصنة الإسرائيلية فعلى الفلسطينيين أن يقلبوا الطاولة على رأس الجميع وخاصة أن هناك تجربة دلتهم على ممكنات قوتهم حين خرجت التظاهرات في سبتمبر الماضي أثناء أزمة مشابهة لهذه الأزمة بل في العاشر من الشهر أي بتأخير أيام وليس كما الآن وحينها تراجعت إسرائيل تحت لحظة خوف أن تفتح تلك التظاهرات انتفاضة ضدها وحررت الأموال المحتجزة. ببساطة إسرائيل تسرق أموال الفلسطينيين صحيح أن الحكومة العاجزة تتحمل بوضعها الحالي المسئولية الأولى عن ضعفها وعدم توفر احتياط ولو لشهر واحد, ولكن المواطن الفلسطيني الذي خرج سابقا وأرغم إسرائيل على أن تعيد أمواله قادر مرة أخرى على تكرار نفس المشهد لأنه لو سكتت عليه أن ينسى الأموال المسروقة ولا يحلم بإعادتها من دولة امتهنت اللصوصية للأرض قبل المال ،وسؤال العجز أيضا ينطبق على المواطن الفلسطيني كما حكومته ،أما آن الأول لبدء ربيع فلسطيني تأخر كثيرا لو بدأ بإمكانه ليس فقط وقف سرقة الأموال بل أيضا وقف سرقة الأراضي التي تعلن عنها حكومة نتنياهو صباح مساء فهل سيغطى الفلسطيني عجز حكومته هذه المرة؟! Atallah.akram@hotmail.com