من الواضح ان النسبة التي "سيمر" بها مشروع الدستور الجديد في مصر ستكون أقل بكثير من النسبة "الفلكية" التي مررت التعديلات الدستورية العام الماضي، وبناء عليه يمكن القول ان مصر تتغير.وما نشير اليه من تغيير يتعلق بسلوك الشارع المصري وآليات تعامله مع المتغيرات في ظل حكم الاخوان المسلمين. وصحيح ان الرئيس محمد مرسي جاء ليحكم بلدا منقسما بحدة بشهادة فارق الاصوات البسيط الذي فاز به على الفريق احمد شفيق، غير انه من الصحيح ايضا ان اغلبية الشعب المصري جاهزة لاعطائه فرصة للعمل والنجاح، وأن هناك رياحا مواتية اقليميا ودوليا تهب في اشرعة سفينة مرسي وعبرت عن نفسها ونواياها الودية بأشكال عديدة.غير ان السيد مرسي و"جماعته" اثبتا قدرة هائلة على عدم التوقف عن ارتكاب الاخطاء خلال الشهور الماضية. فمن جهة رسخت الجماعة لدى منتقديها ومراقبيها كل المخاوف والشكوك، فقد اكدت التصرفات والقرارات نزعة اصيلة لدى الجماعة للسيطرة والتفرد ورفض الاخر و"التكويش" بالتعبير المصري. وعبرت عن ذلك حملة "اخونة" مؤسسات الدولة العريقة ابتداء من وسائل الاعلام الحكومية وانتهاء بالقضاء، وجاء مشروع الدستور كنموذج فاضح لسعي الجماعة وحلفائها السلفيين الى تغيير روح وهوية مصر واستهتارها بمتطلب التوافق اللازم والضروري عند صياغة دستور هو في طبيعته عقد اجتماعي تتوافق عليه جميع اطياف وطوائف وفئات المجتمع لتنظيم علاقاتها وصياغة رؤيتها الموحدة لاسلوب واسس واحكام العيش والتعايش المشترك.لقد اثبت الاسلام السياسي العربي مرة اخرى اولوياته التي لا علاقه لها بالهموم الوطنية والاجتماعية والاقتصادية ولكنها تشدد على تطبيق ما يراه صحيحا في مجال الحد من حرية المرأة وتشديد القيود على ما يراه مقترحات خطاب ثقافي غير مقبول بل ويشكل خطرا يجب اجتثاثه.ومن يستمع الى تصريحات وسلوك قادة الاسلام السياسي في مصر ضد الشخصيات السياسية والثقافية والاعلامية والفنية يجب ان يشعر بالخوف والقلق الشديدين، ففي هذه التصريحات نجد كل ما يحيلنا الى عصور مظلمة لا مكان فيها للحوار والتسامح وقبول الاخر، بجانب انها تتسم بانحطاط غير مسبوق من حيث ضحالة العرض وبؤس الاسلوب. والمثير ان رئيس مصر صمت على كل تجاوزات جماعته "او عشيرته كما يسميها" وحلفائها، فأن تحاصر المحكمة الدستورية العليا في اية دولة، حتى لوكانت مبتدئة في الممارسة الديمقراطية، هو أمر اشبه بزلزال يستدعي اجراءات حاسمة على اعلى مستوى. ولكن دولة مرسي لم تفعل شيئا على مدى اسبوع كامل تماما كما تجاهلت محاصرة مجموعات من السلفيين لمدينة الانتاج الاعلامي التي تبث منها جميع برامج القنوات الفضائية التي يراها الاسلام السياسي "سحرة فرعون" والخطر الاكبر الذي تجب ازالته.وارتبط هذا كله بنموذج بائس من القياده قدمه مرسي، فقد اتسمت قراراته بالتخبط والارتباك، واصبح مألوفا ان يتخذ مرسي قرارا ثم يتراجع عنه. ومن الجائز الى حد ما تفهم عدم الخبرة، ومن الممكن الاشارة لواقع ثنائية الحكم المكونة من الرئيس المنتخب ومكتب ارشاد الجماعة في جبل المقطم. ومن الضروري التذكير ان سيئ الحظ هو من يحكم مصر هذه الايام بما تحمله من تحديات ومصاعب وخيارات صعبة وغير شعبية، وعبر عن ذلك قرارات برفع الضرائب اتفق عليها مع صندوق النقد الدولي واضطر لالغائها بعد ساعات من اصدارها عندما استشعر احتمالات غضبة شعبية عاتية.غير ان الارتباك وعدم توفر الخبرة لم يمنع ادارة مرسي - "الاخوان" من تقديم نموذج يدل على "الاحتراف والخبرة" في معالجة ملف العدوان الاسرائيلي على غزة. فقد لجأ سيد قصر الاتحادية، كما يبدو، الى ملفات سلفه حسني مبارك وسار على هدي خطواته، واصبحت المكالمات الهاتفية بين مرسي وباراك اوباما متكررة، وجلست السيدة هيلاري كلينتون ساعات في الاتحادية حتى فاخر مرسي بانجاز اتفاق تهدئة لا يمكن لاحد الزعم بأنه يختلف عن اتفاقات مماثلة في عهد مبارك.غير ان ادارة مرسي - الاخوان عندما حاولت الاستقواء بالعلاقة الدافئة مع واشنطن لتمرير سياسات غير ديمقراطية عبر اصدار اعلان دستوري اكتشفت الحقيقة المرة، ان كسب رضا واشنطن ليس كافيا.وهنا تجيء قراءة التغييرات في سلوك الشارع المصري، وهنا تثبت الحقيقة الراسخة وهي ان الانجاز الاكبر لتلك الايام التاريخية المضيئة في يناير 2011 يتمثل في كسر حاجز الخوف لدى المواطن من الفرعون واطلاق طاقات هائلة لدى المصريين. وفي الاسابيع القليلة الماضية اكتشفت قوى المعارضة ان بامكانها ان تتوحد وان تفعل وان تؤثر، وادهش المصريون انفسهم بنزول الملايين منهم الى الميادين دفاعا عن مصر امام هجمة "الاخونة" بما تتضمنه من خيارات اقتصادية واجتماعية وثقافية خطرة بل مدمرة، وكان من الملاحظ في هذه المليونيات انها جذبت فئات اجتماعية جديدة الى صفوفها وانها استطاعت ان تصمم ايقاع خطواتها بشكل ذكي وان لا تنزلق الى دروب ارادها الطرف الاخر.وربما كان اعتداء ميليشيات الاخوان على معتصمي قصر الاتحادية نقطة حاسمة في تكريس وعي المصريين بمخاطر السلوك الاخواني.وجاءت الجولة الاولى من الاستفتاء لتؤكد ما نراه من تغيرات في السلوك، وابراز اكتساب المصريين بكافة فئاتهم لوعي جديد ولجرأة في التعاطي مع السلطة القائمة. لقد راهن الاخوان والسلفيون على فوز كاسح يرهب معارضة بدأت تتصرف بحرأة، وشارعا بدأ يعبر عن نفسه بقوة، ويطمئن اصدقاء جددا في واشنطن بأنه قادر على ضبط الامور في اكبر دولة عربية وقادر على ضمان معاهدة السلام مع اسرائيل ومؤهل لتدفق مليارات الدولارات من المساعدات.مصر تتغير، ويبدو ان قدرها ان تتحمل تكلفة تجربة تاريخية فريدة يمثلها حكم الاسلام السياسي، سيكون المخاض صعبا، والدرب طويلا وشائكا، والتضحيات كبيرة، ولكن من المؤكد ان مصر تسير على الدرب الصحيح نحو الديمقراطية.