ليس وهماً ما يظهر في المشهد السياسي والشعبي الفلسطيني من ملامح التعافي النسبي بطبيعة الحال، وارتفاع المعنويات، ومناخات التحدي، والانفراج النسبي في العلاقات بين حركتي فتح وحماس.شيء من الدفء بدأ يسري في عروق السياسة الفلسطينية، وكثير من الصلوات التي تدعو إلى أن يوفق الباري قيادتي حماس وفتح، لتحقيق الإنجاز الكبير الذي يتصل بتحقيق المصالحة الوطنية واستعادة الوحدة.ثمة إفراط في تأكيد كل الأطراف على أهمية الوحدة، وضرورة تحقيق المصالحة على نحو عاجل، لكن الناس الذين يفرطون في الدعوات من أجل تحقيق المصالحة في أقرب الآجال لا يفرطون في التفاؤل بإمكانية تحقيقها، رغم معرفة المواطن والمسؤول، بأن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من استمرار حالة الانقسام. كل الوقت، نتحدث عن مصلحة إسرائيل الحصرية عن وقوع واستمرار الانقسام، ولا ننسى لتأكيد ذلك، كل تصريح صدر عن مسؤول إسرائيلي أبدى ويبدي نشوته لبقاء هذا الانقسام.لا يتوقف الأمر عند شعور الإسرائيلي بالنشوة، بل إن الانقسام بالنسبة له، يتحول إلى إجراءات، وعدوانات، ومحاولات لا تتوقف عن فصل قطاع غزة كلياً عن الضفة الغربية والقدس، ولا تتوقف عن التحريض والتلاعب على التناقضات الفلسطينية من أجل تأييد الانقسام والفصل، على طريق الإطاحة بكل الحقوق الوطنية الفلسطينية. .. ومؤخراً أبدع المجنون وزير الخارجية الإسرائيلي المستقيل أفيغدور ليبرمان في توضيح أبعاد المسألة حين هدد بإلغاء التهدئة في حال أقدم الفلسطينيون على التوصل لاتفاق ينهي الانقسام.هذه التأكيدات من قبل الجانب الإسرائيلي تطرح على رؤوس من بيدهم قرار المصالحة من الفلسطينيين علامات استفهام كبيرة، فهل ثمة طرف أو أطراف فلسطينية صاحبة مصلحة هي الأخرى في استمرار الانقسام؟ الحديث لا يدور عن شكل من أشكال التآمر والمنسق مع إسرائيل، ولكن ألا يعني استمرار الانقسام، أن ثمة تقاطع مصالح بين طرف فلسطيني والآخر الإسرائيلي، لدوافع وأهداف مختلفة، ولكنها في كل الأحوال وبغض النظر عن النوايا، تؤدي إلى إهدار الحقوق الفلسطينية؟وإلى متى يمكن الانتظار حتى يبرئ كل طرف مسؤوليته عن استمرار الانقسام والأهم هو الى متى يمكن للنخبة السياسية، وللفصائل أن تظل ملتزمة بخط تعويم المسؤولية، والتواطؤ مع من يبحث كل الوقت عن المبررات عند الطرف الآخر للتهرب من مسؤولياته. إن الجملة التي تقول إن إسرائيل هي الطرف الأساسي صاحب المسؤولية عن استمرار الانقسام، هي جملة ناقصة، طالما بقي هذا الانقسام، وعلينا أن نكمل الجملة بتسمية الطرف الفلسطيني صاحب المصلحة إلى جانب إسرائيل.في الواقع فإن الظروف الدولية، والإقليمية والمحلية مناسبة جداً لكي ينتقل الفلسطينيون من خانة التأكيدات النظرية بشأن المصالحة والوحدة إلى خانة العمل الإجرائي الملموس، فنحن نعيش أجواء إنجازات سياسية وكفاحية عارمة، والشعب ينتظر المزيد من الإنجازات.الشعب ينتظر تحقيق المصالحة، لا التقاسم الوظيفي، وينتظر توحيد المؤسسة والقرار، لا تعدد وترشح المؤسسات، والقرارات، وينتظر الشعب وهو مستعد لدفع ثمن تصعيد النضال الشعبي والسياسي، وينتظر من قيادته أن تمضي قدماً نحو مقاضاة إسرائيل، ودفعها إلى قفص الاتهام الدولي.الشعب الفلسطيني ينتظر، تحويل السلطة الوطنية إلى دولة تحت الاحتلال، وإلى إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني الجامع، وفق استراتيجيات وخيارات تنجم عن حوار يبدأ بمراجعة التجربة الماضية السابقة، واستخراج دروسها ولتحديد الأولويات على نحو يستجيب لتطلعات الشعب.الظروف العربية مؤاتية، لإجراء عملية المصالحة، وبغض النظر عن تقييم المخرجات الرسمية للربيع العربي، الذي يميزه الحضور الشعبي الفاعل، الذي حطم حواجز الخوف ويتطلع إلى مجتمعات عربية ديمقراطية تحقق للمواطن كرامته وحريته، التي يدرك المواطن أن الولايات المتحدة، وإسرائيل، بتحالفها مع الاستبداد العربي، هما المسؤولتان عن مصادرة الحقوق والكرامات.والظروف الدولية مؤاتية، أيضاً، فلقد خاض الشعب الفلسطيني تحدياً قوياً حين توجهت قيادته إلى الأمم المتحدة، فوجد أن لا الولايات المتحدة الأميركية قادرة على حماية حليفتها إسرائيل، ولا إسرائيل تحظى بالحد الأدنى من الاحترام الدولي.ويلاحظ المراقب عن كثب أن الإدارة الأميركية لم تعد قادرة على تحمّل أعباء السياسات الإسرائيلية المجنونة، التي تتحدى الأسرة الدولية وقراراتها، عبر تكثيف الاستيطان وتهويد القدس وإطلاق التهديدات ضد السلطة الفلسطينية.في إسرائيل وعلى جسدها يظهر الطفح، وتتبدى الأزمة، فلقد أعلن وزير الدفاع ايهود باراك قراره باعتزال العمل السياسي، بعد الانتخابات، ثم لحق به زميله في ثلاثي العدوان، أفيغدور ليبرمان الذي أعلن استقالته هو الآخر.لم يفصح باراك عن أسباب استقالته، فيما يستقيل ليبرمان على خلفية اتهامه بالفساد وخيانة الأمانة، لكن لا صمت باراك عن أسباب استقالته من الحياة السياسية ولا رد فعل ليبرمان على اتهامه بالفساد، يفسران الأسباب الحقيقية، لاستقالتيهما. وبرأينا فإن السبب واضح، وهو فشل حملاتهما العدوانية على قطاع غزة، وفشل السياسة الخارجية الإسرائيلية في منع الفلسطينيين من النجاح في الأمم المتحدة.ليس هذا فحسب بل إن تداعيات السياسة المتطرفة التي يقودها مثلث الحرب نتنياهو ـ باراك ـ ليبرمان، قد أخذت تلقي بظلالها وبقوة على الجمهور الإسرائيلي، الذي عبر 37% منه حسب استطلاع نشرته صحيفة "هآرتس" عن الرغبة في الهجرة ومغادرة البلاد. الظروف مناسبة للفلسطينيين للانتقال نحو مرحلة جديدة، من تصعيد النضال الوطني، لأن سياسات حكومة نتنياهو تقود إسرائيل إلى المزيد من الفشل وإلى المزيد من الأزمات، التي يصعب معها أن يشعر المواطن في إسرائيل بالحدّ الأدنى من الاستقرار والأمن والأمان. وفي الواقع فإن اسم نتنياهو يعني هبة الله، وهو لذلك هبة للفلسطينيين الذين يتكبدون المزيد من التضحيات، ولكن أمثال نتنياهو سيدفعون إسرائيل إلى الهاوية.