بداية لا بد من التأكيد المعتاد على حقيقة سقوط النظام السوري نظرياً منذ يوم 15 آذار، عندما نزل الشعب السوري إلى الشارع ثائراً كاسراً لحاجز الخوف ومحطماً لجدار الصمت وهادماً لركائز قدرة الردع التي بناها النظام البغيض خلال عقود والمتمثلة في التخويف الإرهاب والتنكيل بكل من يتجرأ على انتقاد أو حتى التفكير بانتقاد النظام.في السياق النظري يمكن القول، أيضاً، أن النظام سقط يوم 25 يناير عندما انهارت ركائز النظام الذي أسسه العسكر في مصر، وتم استنساخه - أحياناً بصورة طبق الأصل - في جمهوريات العالم العربي؛ النظام القائم على حكم الفرد الواحد على الاستبداد القهر الاستئثار والفساد النظام الذي أمم كل شيء لصالح السلطة الحاكمة قبل أن تتم الخصخصة لصالح العائلة وحفنة الانتهازيين والمنافقين المحيطين بها.إلاّ أن المشهد السياسي والميداني، الفاصل بين السقوط النظري منذ عشرين شهراً والعملي، الذى بات قريباً وربما مسألة أسابيع قليلة فقط، شهد عدة تحولات وتبدلات ما بين المراهنة أو حتى الرغبة في قيادة النظام للإصلاح. وبالتالي إراحة المنطقة والعالم من أعباء وتحديات الأزمة، والتي استمرت لستة شهور تقريباً ومن ثم دخول الجامعة العربية على الخط واستنتاجها أن النظام لا يريد أو لا يتسطيع حل الأزمة بمفرده، ومن هنا كان طرحها لمبادرة تضمنت خارطة طريق للإصلاح تحت قيادة الرئيس الأسد، وهي الفترة التي استمرت ستة شهور أخرى قبل أن تقتنع الجامعة أن النظام ليس بوارد الحل أصلاً، وأنه يفتقد إلى إرادة الإصلاح وتسارع إلى نقل الملف للأمم المتحدة، حيث ما يزال يراوح مكانه في ظل افتقاد القوى الدولية لإرادة إنهاء الأزمة بشكل فوري وإجبار النظام على الرحيل انصياعاً لمطالب الشعب الثائر خاصة بعدما لم يتورع عن ارتكاب المجازر البشعة ضد شعبه بذهنية القرون الوسطى ولكن بأسلحة وتقنية القرن الواحد والعشرين.تمثلت المعالم الأساسية للمرحلة الأولى من المشهد السياسي والميداني السوري والتي استمرت لست شهور تقريباً بتظاهرات شعبية سلمية طالبت بالحرية الكرامة والعدالة الاجتماعية، والتي واجهها النظام بالقمع والتنكيل والرصاص مع اعتراف خجول بالمطالب المحقة للشعب، خاصة فيما يتعلق بمحاربة الفساد وحرية العمل السياسي والحزبي، وخلال هذه الفترة التي كانت فيها نافذة الإصلاح مشرعة على مصراعيها سعت أطراف عربية وإقليمية ودولية من أصدقاء النظام لتقديم النصح له بالاستماع والإنصات إلى مطالب الشعب والاتعاظ مما حصل في تونس القاهرة وطرابلس الغرب حتى أن وزير الخارجية التركي الذي كان أبرز الساعين لحل الأزمة سلمياً زار دمشق مرات عديدة لتقديم النصيحة وإبداء الاستعداد للمساعدة قبل أن يقدم في نهايتها مبادرة تضمنت الوصفة التقليدية للعلاج لجهة تشكيل حكومة وحدة وطنية وحوار وطني واسع لا يستثني أحد، ووضع دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية نزيهة خلال عام ونصف ومن ثم انتخابات رئاسية في العام 2014 أي في نهاية الولاية الدستورية للرئيس بشار الأسد الذي يفترض أن يشرف بنفسه على تنفيذ هذه المرحلة الانتقالية.غير أن النظام لم يكن بوارد الإصلاح مقارباً الثورة من الزاوية القمعية الضيقة ومتبنياً بالكامل للخيار والحل الأمني، وبدا مهووساً بإنهاء الثورة قبل حلول شهر رمضان من العام الماضي - آب أغسطس 2001 - الذي شهد ثلاث معطيات بارزة كرّست الاستنتاج السابق؛ أولها مظاهرة حماة قبل رمضان بيوم والتي خرجت فيها المدينة عن بكرة أبيها بعد اتفاق مع المحافظ للمطالبة بالحرية والإصلاح ودون التهجم أو التعرض لأحد فرد الرئيس الأسد صباح اليوم التالي مباشرة بإقالة المحافظ وإرسال الجيش لتأديب المدينة وإسكاتها. وفي منتصف شهر آب – رمضان - منعت الهيئات المختصة شيخ مقرئي الشام كريم راجح من الخطابة إثر دعوته الجيش والأجهزة الأمنية للتصدي للأعداء وحماية الشعب الذي يمولهم من دمه وقوت يومه. أما في نهاية الشهر فاقتحمت الجهات ذاتها مسجد الرفاعي في كفرسوسة وأهانت إمامه الشيخ أسامة الرفاعي أحد أبرز الدعاة في الشام سورية والعالم العربي.بنهاية آب وبعد ستة أشهر من الثورة بدا واضحاً تمترس النظام خلف الحل الأمني، الأمرالذي أدى بدوره إلى ثلاث متغيرات أاساسية إغلاق نافذة الإصلاح وفتح نافذة التغيير بعد رفع الشعب الثائر لسقف مطالبه من الحرية والكرامة إلى إسقاط النظام بكافة رموزه وجلاديه. أما المتغير المهم الثالث فتمثل بتشكيل النواة الأولى للجيش الحر وهو أحد المتغيرات الحاسمة برأيي في مسيرة الثورة السورية المظفرة.كعادتها انخرطت الجامعة العربية متأخرة في الشأن السوري، وبعد مائتي يوم تقريباً على اندلاع الثورة وبدأت بالقدم اليسرى بعدما لم تلاحظ إغلاق نافذة الإصلاح وتمترس النظام خلف الحل الأمني وإنكاره للثورة ومطالبها المحقة، ورغم ذلك أرسلت الجامعة أمينها العام ثم لجنة مصغرة إلى دمشق للقاء الرئيس الأسد وإقناعه بالحل السلمي، ثم طرحت فكرة إرسال مراقبين للإشراف على وقف إطلاق النار ضمن مبادرة شبيهة تماماً بخطة وزير الخارجية التركي لجهة تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مع الموافقة على إكمال الرئيس بشار لولايته حتى نهايتها في العام 2014، مع حقه في التنافس مرة أخرى إذا ما أراد غير أن الجامعة ورغم بيروقراطيتها وحركتها الثقيلة سرعان ما وصلت إلى القناعة الراسخة والصحيحة الأسد ليس بوارد الإصلاح أو التخلي عن استخدام القوة ضد شعبه ولا مفر بالتالى من نقل الملف إلى مجلس الأمن الدولي، كي يتخذ ما يراه مناسباً لوقف المجزرة بل المجازر التى يرتكبها النظام.فضح انتقال الملف إلى مجلس الأمن حقيقة عجز المجتمع الدولي، وعدم امتلاكه الإرادة اللازمة لوقف المجرزة أو المأساة التي عاشها الشعب السوري وما زال، والمعادلة التي تحكمت بل كبّلت أيادي المجلس هي نفسها التي تحكّمت بالمشهد السوري السياسي والميداني خلال الشهور العشر الأخيرة، حيث أن روسيا - ومعها إيران والصين - تريد الحفاظ على مصالحها مع النظام البعثي حتى لو دمرت سورية بالكامل بينما أمريكا - ومعها إسرائيل - لا يهمها بقاء النظام، طالما أن البلد تنهار بينما النظام مستعد لحرقها - كما يقول أنصاره - من أجل أن يظل في السلطة، وحده الشعب السوري كان متضرراً من هذه المعادلة الظالمة وغير الأخلاقية وهذا ما أدى أساساً إلى تآكلها وانهيارها تدريجياً ببطء، ولكن بشكل متواصل طوال الأشهر الماضية.خاض الجيش الحر مدعوماً من الشعب الثائر معركة استنزاف متواصلة بحق النظام خلال الشهور الماضية، ونجح في السيطرة على مناطق واسعة من سورية، خاصة في الشرق الشمال بحيث اقتصرت سيطرة النظام على نصف مساحة البلد، وربما أقل من ذلك ومع وصول المعركة إلى الشام في الأسابيع الأخيرة وتقدم الجيش الحر في الريف ونجاحه في محاصرة المطار في الأيام الماضية، بدا الواقع أكثر وضوحاً. وللاستنتاج أكثر سهولة النظام يخسر المعركة والثورة تنتصر وهو نفسه ما عبر عنه الأخضر الإبراهيمي، ولكن بدبلوماسية وحذر النظام لم يربح والجيش الحر لم يخسر.إضافة إلى المتغير السابق ثمة متغير ثان ساهم في تآكل المعادلة الدولية والمحلية السالفة الذكر، وتمثل بتزايد قوة التيار السلفي الجهادي في سورية وانضمام مئات، وربما آلاف المقاتلين إلى المعركة ضد النظام، ورغم أن عددهم لا يتجاوز واحد أو اثنين بالمائة من عدد المقاتلين في الحد الأقصى، إلا أنّ تأثيرهم أكبر من ذلك وبقاء النظام واستمرار مجازره سيعني حتماً تضاعف تأثيرهم ليس في سورية وإنما في الشرق الأوسط الكبير بالمعنى الأمريكي، وحتى الروسي للمصطلح الذي يشمل الجمهوريات الآسيوية الإسلامية خاصة في القوقاز.متغير ثالث ساهم بدوره في تآكل المعادلة الدولية غير الأخلاقية تمثل بانهيار الدولة السورية، نتيجة للممارسات الكارثية البائسة وقصيرة النظر للنظام، هذا الانهيار الذي قد يحول سورية إلى دولة فاشلة –كما قال الأخضر الإبراهيي - والذي ستكون له تداعيات سلبية على أمن واستقرار المنطقة، وأيضاً الشرق الأوسط الكبير بالمعنى الأمريكي والروسي.أما المسمار الأخير في نعش المعادلة غير الأخلاقية والظالمة، فتمثل باستعداد النظام لاستخدام أسلحة الدمار الشامل الكيميائي في سياق يأسه من الانتصار أو هزم الثورة وقياساً إلى السوابق التاريخية، فإن النظام البعثي وحده استخدم وممكن أن يستخدم السلاح الكيميائي لضمان بقائه في السلطة.إذن، فالمعادلة التي تحكمت بمواقف القوى الدولية الرئيسية من الثورة السورية تلفظ الآن أنفاسها الأخيرة وستفهم موسكو أن حفاظها على مصالحها الضيقة والواسعة، يقتضي حتماً القطيعة مع النظام والانخراط في عملية انتقالية تستند على قاعدة رحيل الأسد ورموزه عن السلطة وستفهم واشنطن أن عليها دعم أو غض النظر عن دعم الجيش الحر بأسلحة قادرة على حسم المعركة بأسرع وقت ممكن ما يحول دون تزايد قوة السلفيين أو تحول سورية إلى دولة فاشلة، وبما يرتد سلباً على المصالح الأمريكية – والإسرائلية - في المنطقة.نقلت نيويورك تايمز عن أحد الخبراء الروس-فيودور لوكريانوف- أن الأسد يبدو يائساً من الانتصار وحسم المعركة لصالحه أو الهروب كون الشبيحة المحيطين به لن يسمحون له بذلك، وعملياً تقتصر الخيارات بين القتل أو القتل وهو عينه ما ذهب إليه الجنرال المجرم رستم غزالة حتى قبل اندلاع الثورة عندما قال لنشطاء ومثقفين في بداية آذار مارس 2011 أنهم إن أرادوا استنساخ تجربة مصر وتونس فإن النظام سيحول البلد إلى مصراتة الأحمق والغبي لم يفهم أن لا وجود لمصراتة وحدها، وإنما مع بنغازي وسرت وهذا هو السيناريو الأقرب لسقوط النظام، بعدما سقطت المعادلة التي حمته منذ بداية الثورة وانهيارها وانهياره بات مسألة وقت فقط.