ما سنأتي عليه ليس له علاقة بقراءة تجربة "المصالحة" على مدى السنوات الماضية فقط، وانما هو على علاقة مباشرة وعضوية بوقائع الحاضر ومعطياته، وهو ليس نتاج تحليل ذهني بقدر ما هو تعامل ومعالجة واقعية لاحداث نمر بها ومؤشرات نلمسها وتوجهات تطرح نفسها على جداول اعمال الحياة السياسية الفلسطينية. لكن قبل ان نأتي على كل ذلك دعونا نفرّق ما بين الاجواء المحفزة والمبشرة للمصالحة وما بين درجة الاستعداد الحقيقي للدخول في التطبيق المباشر للخطوات المطلوبة لتسيير وتشغيل ماكنة المصالحة.الاجواء بعد "الفشل" الاسرائيلي في عدوان "عمود السحاب" والذي اعتبر انتصاراً فلسطينياً من على قاعدة ذلك الفشل بالذات، والأجواء بعد الهزيمة الاسرائيلية النكراء في الامم المتحدة والذي تُرجم في انتصار فلسطيني غير مسبوق هي أجواء ايجابية عبرت عن نفسها بكثير من مشاعر التلاحم في لحظات العدوان والكثير من مشاعر التقارب في لحظة انتزاع قرار الدولة، وتحولت هذه المشاعر الى حالة شعبية عارمة في المطالبة بإنجاز المصالحة.وقفزت المصالحة في ضوء هذين الحدثين الهائلين من حيث الاهمية والابعاد والنتائج ومن حيث ما سيؤسسان له من تطورات وآفاق الى واجهة السياسة الوطنية والى تصدر قائمة الاولويات العاجلة.وقد ترافق ذلك مع لقاءات غير مسبوقة ومشاركات كانت غائبة ومفتقدة، وما زالت هذه الاجواء تمثل قوة دفع كبيرة باتجاه المصالحة، وهي مرشحة للمزيد. لكن كل ذلك لا يجوز ان يتم اعتباره جزءاً من عجلة المصالحة ولا يحق لأحد ان يستعيض عن دوران العجلة بهذه الاجواء او يكتفي بها والركون اليها.وعندما نأتي الى الواقع فإن هناك من المؤشرات ما يكفي ويزيد على ان هذه الاجواء قد لا تعكس حقيقة التوجه نحو المصالحة، بل وفي بعض الاحيان وعند بعض المؤشرات فإن الامر لا يخلو من مفارقات صادمة ومن تناقضات صارخة.فقد جرى الحديث عن ان كلاً من حركة حماس وحركة الجهاد الاسلامي "سلمّت" المصريين وثيقة مشتركة تشرحان فيها وجهتي نظرهما حول المصالحة، ومع ان هذا الامر يبدو مستغربا تماما ولا اميل الى تصديقه، الا ان عدم نفيه رسمياً لا ينطوي على اشارة ايجابية.اوردت هذا الحديث ليس للاعتماد عليه في قراءة المؤشرات (فاغلب الظن انه ليس صحيحاً) بل للتأكيد على ان هناك على ما يبدو محاولات لتصوير المصالحة وكأنها مطروحة على جدول اعمال الحوارات القادمة ليس من حيث توقفت، ولا على اساس الاتفاقيات والتفاهمات السابقة، وانما على اساس ما "طرأ" من وقائع واحداث ..!! ولان الانتخابات بالذات وتشكيل الحكومة التي تشرف على الانتخابات هي النقطة التي توقفت عندها عجلة المصالحة فإن التهرب من تحديد هذه النقطة بالذات هو مؤشر سلبي كبير، وقد يكون المؤشر الاخطر على عدم صدق النوايا والتوجهات.وأما الحديث عن البدء بانتخابات المجلس الوطني فهو مؤشر أخطر من المؤشر السابق في ظل معرفتنا جميعاً بأن اجراء هذه الانتخابات بالذات خارج فلسطين يكاد يكون مستحيلاً، وان امكانيته الواقعية متوفرة في الارض المحتلة اكثر وبما لا يقاس على الاطلاق مع توفرها في الخارج.اذن، لماذا البدء بانتخابات شبه مستحيلة في الخارج، ولماذا يمكن اجراء انتخابات المجلس الوطني وليس الانتخابات الرئاسية والتشريعية طالما اننا امام فرص متساوية فيما يتعلق بالارض المحتلة، وطالما اننا امام فرص معدومة في الخارج لانتخابات المجلس الوطني؟.ثم لماذا التعمية على الحقائق فيما يتعلق بما يعرف ببرنامج المقاومة!!؟ألم ينته العدوان على قطاع غزة بهدنة طويلة الامد من زاوية النيّة والتوجه والهدف والمقصد الرئيسي؟؟ واذا كان الامر يتعلق بمجرد تهدئة ووقف مؤقت لاطلاق النار، فكيف نفسر هذا الثناء والمديح غير المسبوق وغير المعتاد للرئيس المصري محمد مرسي ولدور مصر (المسؤول) في الاتفاق على لسان الادارة الاميركية بكل اركانها وعلى لسان قادة اسرائيل الذين اشرفوا على الحرب وقادوها والذين دعموها وساندوها والذين تفهموها وبرروها وغطوا عليها؟؟وهل يحتاج المرء الى قدرات خارقة ليفهم ان الاتفاق الذي أبرم هو هدنة مفتوحة، وان قيمتها الاساسية بالنسبة لاميركا واسرائيل تكمن بالذات في كونها كذلك وفي ما ترتبه من "وقف للاعمال العدائية من الطرفين"؟؟وهل يخفى على احد ان اسرائيل "قبلت" بأن لا تبدو منتصرة او حتى مهزومة معنوياً مقابل ان تنتهي المسألة عند هذا الحد، وان تتحول "المقاومة" الى الراعي والحامي والمشرف المباشر على "وقف الاعمال العدائية"؟ثم لماذا يجري تصوير الخلاف في الساحة الفلسطينية وكأنه خلاف على المقاومة طالما ان اصحاب مشروع المقاومة يعتبرون الهدنة المفتوحة في الزمن ولها الوكيل الضامن والمسؤول عن دوامها واستدامتها هو عنوان انتصار وعنوان تقدم وتغير في قواعد اللعبة!!؟ثم لماذا يتم الحديث عن انتزاع قرار الدولة وكأنه في احد جوانبه على الاقل عنوان مساومة وهو الاعتراف باسرائيل، وكأن برنامج السلام الفلسطيني في العام ١٩٨٨ واتفاقيات اوسلو لم تتطرق الى هذه المسألة، او كأن المرة الاولى التي تبدي فيها القيادة الفلسطينية استعدادها للاعتراف باسرائيل!!؟الم يقل السيد خالد مشعل نفسه بأن النظر بتوقيع اتفاقيات سلام "مع" اسرائيل ممكن اذا تحقق ما تنص عليه عملياً مبادرة السلام العربية؟.أين الفارق الجوهري في البرنامج السياسي اذن؟ واين الفارق الجوهري في مسألة وسائل النضال اذا كان السيد خالد مشعل نفسه يعتبر ان اختيار وسيلة النضال مسألة منوطة بالظروف وليست منوطة بمبدأ ثابت وأبدي!!؟لماذا يجري تصوير معركة الامم المتحدة مرة كانتصار ومرة كعنوان مساومة!!؟ولماذا يتم تصوير الاعمال المسلحة وكأنها عنوان وحيد للمقاومة، في حين يتم تصوير نفس هذا العنوان باعتباره مسألة تكتيكية خاضعة لظروف خاصة!!؟أليس هذا كله هو محاولة لوضع العصي في دواليب المصالحة؟ ثم لماذا ابراز الخلافات وتضخيمها والمبالغة في حجمها طالما ان كل ما ذهبنا اليه هي عناوين للتقارب والتفاهم والبحث المخلص والصادق عن قواسم مشتركة تكفي وتزيد للاستناد إليها في اعادة اللحمة الوطنية وانهاء هذا الانقسام المدمر؟؟أخشى ان هذا الغزل الشديد بأجواء المصالحة يخفي وراءه الرغبة باعادة تعقيد كل الحلقات امامها، بل وَبِتُ ارى ان الركون الى ذلك الغزل سيضعها (اي المصالحة) امام مأزق جديد، واخشى ان البعض سيعتبر الهدنة هي فرصة تكريس الانقسام برعاية اخوانية مصرية ومباركة قطرية.وبصريح العبارة ارى ان ثمة ما يؤشر على ان "تدجين" حركة حماس قد لا يكون ممكناً بدون تكريس الانقسام على طريق الانفصال، وقد تكون الخطة الاميركية الاسرائيلية لافراغ موضوع الاعتراف بالدولة من مضمونه له بوابة واحدة وهي الرعاية العربية الاخوانية القطرية للانقسام تحت عناوين جديد ومسميات مستجدة افرزتها وقائع الحرب الاخيرة على القطاع.