الوضع القائم في الساحة الفلسطينية منذ سنوات مخالف لطبيعة الاشياء، ومخالف لسيرورة التطورات الاجتماعية والسياسية التي تجري في مجتمعات تنتمي لما يسمى بالعالم الثالث، وهي استثنائية في مخالفتها للمنطق، بالنسبة لشعب يقع تحت الاحتلال، ويصارع كل الوقت من اجل حريته واستقلاله.منذ ان وقع الانقسام الفلسطيني الحاد، واستفحلت تداعياته، ومظاهره ومخرجاته الخطيرة على القضية وعلى وحدة الشعب ونضاله، وعلى وحدة اهدافه الوطنية، نقول منذ البداية، كان من الواضح ان الطرفين فتح وحماس هما اللذان يتحملان المسؤولية الاساسية والمباشرة، عن هذا الانقسام، وعلى الرغم من ان كل طرف يحمل الطرف الآخر المسؤولية، ويسوق المبررات والذرائع وربما الحقائق، للتنصل من المسؤولية، فإن التحليل الموضوعي الصادق لا يعفي اي طرف دون الآخر، وان كانت المسؤولية غير متساوية، لا فيما يتعلق بالعوامل التي ادت الى وقوع الانقسام والصراع، ولا من حيث توفر الارادة والقرار لإنهائه. لسنا بصدد العودة الى المناقشات التي رافقت مرحلة ما قبل واثناء وما بعد وقوع الانقسام، فلقد استهلكت الساحة الفلسطينية زمنا طويلا، وجهودا كبيرة، في ادانة فعل الانقسام وابعاده واغراضه، وفي توصيف ما وقع، بين من يعتبره انقلاباً، ام حسما عسكرياً، وايضا في شرح مخاطر وابعاد استمرار الانقسام، وخاضت النخب السياسية والإعلامية والثقافية والحقوقية نقاشات واسعة، في موضوع الشرعية، وكان لنا إزاء كل ذلك مواقف واضحة، ولكن مجريات الامور تجاوزت كل تلك النقاشات، الى ان اصبحنا امام امر واقع، وملموس، لا يمكن ولا يفيد انكاره، والمناقشات والاتهامات انصبت حول مسؤولية قطبي الانقسام فتح وحماس، وتجاهلت إلا لماماً مسؤولية الفصائل الاخرى التي لم نعد قادرين على احصاء عددها، واستذكار كل اسمائها.في الواقع، فإن هذه الفصائل التي لم تنخرط في الانقسام لا تحضيرا ولا تنفيذا ولا تأييداً، تتحمل هي الاخرى قدرا من المسؤولية غير المباشرة عما وقع، وتتزايد مسؤولياتها، كلما استمر الانقسام، واتضحت اكثر فاكثر المخاطر المترتبة عليه. واذا كان الحديث عن هذه الفصائل يعني الاكثر وجودا وتأثيرا منها، وهي الجبهة الشعبية والديمقراطية، وحزب الشعب والجهاد الاسلامي، والمبادرة الوطنية، فإننا نعتقد ان استمرار حال وفعل هذه الفصائل على ما هو عليه من شأنه ان يضعها في موقع المسؤولية التاريخية، عن عدم توفير القوة الكافية للضغط على الطرفين فتح وحماس لدفعهما دفعا نحو انهاء الانقسام، والعودة الى رحاب الوحدة الوطنية، بما يقتضيه ذلك من اعادة بناء المؤسسات الفلسطينية، وآليات عملها وبرامجها، ونحو اعادة بناء الشراكة السياسية بما يؤدي الى استيعاب كافة القوى الحية في الاطر الموحدة.نتحدث هنا عن فشل كل المبادرات والتجارب التي سعت من اجل التوصل الى صيغة تنظيمية، تجمع القوى والتيارات الديمقراطية التقدمية، تلك المبادرات والتجارب التي بدأت منذ اوائل ثمانينيات القرن الماضي، وتنوعت في طبيعتها دون ان تنجح في توحيد هذه القوى.في سابق العقود، كان بامكان غير المتحمسين لتوحيد التيار الديمقراطي ان يتحدثوا عن كثير من قضايا الخلاف الفكرية، والسياسية، والتنظيمية، ولم يكن ذلك مقنعاً لا لاعضاء وكوادر هذه القوى، ولا للشخصيات المستقلة ولا للمواطن العادي، ولكن ما الذي يمكن ان يسجله هؤلاء من اختلافات كافية لتبرير استمرار الانقسام فيما بينها، الا العصبوية التنظيمية التي تعكس شكلاً من اشكال الوعي القبلي، والا التشبث بالمراكز، والامتيازات والالقاب التي لم تعد تفيد القضية الوطنية، او الحزب المعني؟لقد مرت سنوات وعقود طويلة، من النضال المنفرد لكل فصيل وحزب، واستمرت معها الآمال والوعود لتحقيق التطور والنمو، وتوسيع العضويات واستقطاب المزيد من الدعم والتأييد الشعبي، لكن النتائج جاءت مخيبة للآمال تشير الى محدودية وتأثير ودور كل فصيل على حدة. وعمليا فإن استطلاعات الرأي، هذه الايام لا تعطي الفصائل الديمقراطية اكثر مما حصلت عليه في الانتخابات التشريعية السابقة. وبصراحة، فإن بقاء اوزان وحجوم الفصائل الفلسطينية ودورها وتأثيرها عندما حصلت عليه في الانتخابات التشريعية السابقة، يعني ان هذه الفصائل في حالة تراجع، ذلك ان الظروف الداخلية، وحالة الصراع، والانقسام والاستقطاب السياسي، يفترض انها وفرت ظروفا موضوعية، لتقدم هذه الفصائل على حساب الفصائل المتصارعة والمنخرطة في الانقسام، والتي بسبب ذلك يفترض انها تخسر من رصيدها.وعدا عن الضرورة الاجتماعية والتاريخية، التي تتطلب من القوى الديمقراطية الفلسطينية فعلا ودوراً، يلبي طبيعية التركيب الاجتماعي، واتجاهات الثقافة الوطنية الاصيلة، فإن ثمة جملة من العوامل والدوافع، التي تضع هؤلاء جميعا امام مسؤولياتهم التاريخية. من الواضح ان هذه الفصائل بحاجة ماسة لمراجعات عميقة وجريئة، لبرامجها، واشكال وقوانين عملها التنظيمي، وآليات فعلها الداخلي، وعلاقتها مع الجماهير والتحالفات بما يشكل الاساس لتجديد اوضاعها وقياداتها، ورؤاها وللنهوض بدورها، والا تحولت الى قبائل كبيرة او صغيرة لن يذكرها التاريخ بكثير من الخير. ان المخاطر التي تحيق بالقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية في هذه الظروف التاريخية تستدعي المبادرة نحو اجراء تغييرات جذرية في خارطة العمل السياسي الفلسطيني، وفي طبيعة ومكونات المشروع الوطني، وادوات وآليات النضال من اجل تحقيقه.على ان الوضع العربي يقدم لنا هو الآخر، محفزاً جديداً، اذ لا يمكن تجاهل ان الربيع العربي ينطوي على مبادرات لاعادة بناء التيارات الفكرية والسياسية والحزبية، نحو اصطفافات جديدة، واحزاب جديدة، واطر جديدة ورؤى مختلفة، ذلك ان التغيرات الحاصلة، فتحت المجال امام الحراك الاجتماعي والطبقي على اتساعه. وبصراحة، فإن تقدم التيارات والجماعات الفكرية والحزبية في العديد من الدول العربية نحو اعادة بناء ذاتها وتحالفاتها، وآليات عملها انما ينطوي على ادانة للقوى الديمقراطية الفلسطينية، التي تعمل في ظل ظروف وعوامل يفترض ان تجعلها اكثر من غيرها وقبل غيرها، الاكثر اقداماً وجرأة نحو التغيير.اذاً، الظروف باتت اكثر من ملحة واكثر من مناسبة للتقدم نحو اعادة بناء العلاقات بين القوى الديمقراطية بما يؤدي الى نشوء التيار الديمقراطي التقدمي، وفق صياغات وآليات عمل وبرامج، تراعي الاسباب التي ادت الى فشل التجارب والمبادرات السابقة، ان المجتمع الفلسطيني بنخبه الثقافية والسياسية والاجتماعية والحقوقية والاكاديمية، ينتظر مثل هذه المبادرات، وعلى ما اعلم فإن الكثير من هؤلاء، مستعدون للانخراط في عمل وحدوي للقوى الديمقراطية، شرط ان تتوفر لها عوامل الثبات والتطور والاستمرار.