خبر : المصالحة تنفيذ لا بلاغة ...د.عاطف ابو سيف

الإثنين 10 ديسمبر 2012 12:25 ص / بتوقيت القدس +2GMT
المصالحة تنفيذ لا بلاغة ...د.عاطف ابو سيف



لو قدّر لزائر غريب لا يعرف شيئاً عن الصراع الفلسطيني الداخلي أو الانقسام أن يمر صدفة هذه الأيام بفلسطين ويحظى ببعض الوقت للجلوس مع النخب السياسية أو حتى الناس العاديين في المقاهي والكافتيريات أو يستمع لنشرات الأخبار لاعتقد بأن الشيء مجهول الهوية والشكل المسمى مصالحة يقف على الأبواب وأن الجميع يتدافع لفتح الباب له وأنه عمّا قليل سيدخل البيت. كما أنه لن يشك (طبعاً لأنه لا يعرف القصة كاملة) في أن الجميع يريد المصالحة وأن الكل يرغب لهذا الشيء الغريب أن يكون بينهم، وربما ذهبت به الظنون إلى الحد الذي يؤمن به أن هذا الشيء الغريب المسمى مصالحة هو من يتمنع ولا يريد أن يأتي. وهذا شعور ربما يمتلك شهادة ميلاده الشرعية من الحديث الكبير الذي يتفوه به الكل عن المصالحة كونها استحقاقاً وطنياً وحتميةً آنيةً لابد أن تتحقق خاصةً بعد سنوات الانقسام الخمس العجاف وما آلت إليه الأوضاع. الكل يريد المصالحة بلا استثناء: التنظيمات تريدها والناس تريدها والجيران يريدونها (إسرائيل ليست جارة بالطبع) والأشقاء يريدونها والمصلحة الوطنية تريدها ولكن المصالحة لا تريدنا. لابد أن يبدو الأمر هكذا، ولابد أن ثمة ما يعيق دخول هذا الشيء الغريب المسمى مصالحة من دخول بيتنا. وليس أمام الزائر الغريب إلا أن يلوم المصالحة نفسها، فنحن شعب مسكين لا نحقق شيئاً مما نريد. إلا أن الأمر سيبدو أكثر غرابةً حين يتمعن هذا الزائر بكنه المصالحة وماهيتها، لأنه سيكتشف أن الأمر أكثر بساطة حتى مما ينطق به البلغاء ويتشدق به الخطباء ويتمناه العامة والسواد من الناس. فهي ليست بأكثر من إجراء انتخابات عامة ورئاسية كي يختار الناس من يمثلهم في المجلس التشريعي (سنقول له البرلمان) ويختاروا الرجل الذي سيطلقون عليه اسم رئيس ويختاروا بشكل أوسع برلمانهم الكبير (ولأن الزائر الغريب لن يفهم تعقيدات نظامنا السياسي سنقول له" التشريعي" هو المجلس الأصغر و"الوطني" هو المجلس الأكبر كما هي مقتضيات الحال في الكثير من الديمقراطيات). سيهز الزائر الغريب رأسه فحتى تلك ليست بأكثر من أساسيات لأي عملية سياسية عادية. ليس في الأمر من بدعة ولا صنعة، فهذا يحدث كل يوم في مكان ما في العالم. فالناس ووفق ما صارت عليه العادة يذهبون إلى صناديق الاقتراع ليختاروا من يمثلهم. هكذا تعاقد الناس منذ فطرتهم الأولى على أنهم مجتمعون لا يستطيعون أن يحكموا لأن الفوضى ستعم وأن السبيل المثلى للخروج من حالة الطبيعة (أحدهم سيتذكر روسو) هي عبر العقد الاجتماعي. وبكلمة أخرى فإن الشيء المسمى مصالحة إذا كان هذا هو جوهره فلابد أن نسميه شيئاً آخر. فكيف تكون الأشياء العادية مصالحة. المصالحة لابد أن تكون حلولاً جديدةً لأزمات عميقة. أما ما نتحدث عنه فهو جوهر العملية السياسية حتى في القبائل المتناحرة!!واستكمالاً لتوصيف المصالحة، لابد أن نخبر الزائر الغريب أنه لكي يتحقق ذلك لابد من تشكيل حكومة وفاق وطني تقع على كاهلها مهمة تنظيم الانتخابات والإشراف عليها، إلى جانب العمل على ترتيب أمور البلاد بعد سنوات خمس من الفوضى المؤسساتية وتضارب التشكيلات الإدارية والسلطوية. لا بد أن يهز الزائر الغريب رأسه فكل ما تم ذكره خاصة حكومة الوفاق الوطني هو جزء من تقاليد الشعوب التي تصبو حقيقة للديمقراطية، فهي بحاجة إلى تشكيل أجسام سلطوية مؤقتة تقوم بالمهمة الانتقالية وتنظمها بالشكل الذي يسمح لعملية التحول الديمقراطي أو للديمقراطية إذ كانت المرة الأولى التي تتم فيها أن تحدث. على الأقل تجارب وخبرات الشعوب تقول هذا ويمكن استحضار تجارب التحول في أميركا اللاتينية في العقد السابع من القرن الماضي أو تجارب أوروبا الوسطى والشرقية في العقد الأخير من القرن العشرين أيضاً. لكن كل هذا لا يحدث عندنا. فالمصالحة واقفة على الأبواب ولا تريد الدخول. ولكن حقيقة الأمر أن هذا الشيء المسمى مصالحة يقف يطرق الباب بعنف ولا أحد يستمع إليه. وإذا أعيد ترتيب الوصف السابق فسيكتشف الزائر أن اللغط والجلبة والطحن الكثير الدئار في حوش البيت يصم الآذان ويعمي العيون، وأن في حقيقة الأمر لا أحد يستمع إلى جوهر الأشياء لأن التبصر والتقاط معاني الإشارات بحاجة لأكثر من مجرد خطب ومهرجانات وأحاديث إعلامية. والخلاصة التي سيخرج بها هذا الزائر أن أحداً حقاً لا يريد المصالحة وأن هذا الشيء المهمل على باب البيت لن يجد له موطئ قدم إلى فنائه، وأن برد الشتاء القارس سيقتله وسيكون عليه ربما أن ينتظر لسنوات خمس أخرى ربما (ربما أخرى لتوكيد). فإجراء الانتخابات وتشكيل حكومة وفاق وطني ليسا بحاجة لكثير من الجعجعة التي لا تأتِي بهباءة طحين واحدة. المحزن أن الحديث عن المصالحة صار موضة، بل يصعب أن نفرق بين أحاديث التنظيمات حول فهمها للمصالحة، فالكل بات يعرّفها بالكلمات نفسها ويصفها بالأوصاف نفسها، ولكن لا أحد يفهم لماذا لا يتم اتخاذ خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح، لماذا لا يقوم أحدهم بفتح الباب للشيء المسمى مصالحة حتى يصير مواطناً صالحاً في النظام السياسي الفلسطيني ويعيد للنظام هيبته وعافيته. حتى لو كنت مدرس مدرسة أو بقالاً أو مسؤولاً سياسياً كبيراً أو رئيساً لمكتب سياسي لابد أن تشير للمصالحة، ما الفرق!!! فالحديث ليس عليه ضريبة كما تقول جداتنا ومن السهل الحديث ورمي الوعود في الطرقات؛ لأن من يحاول التقاط الوعود هم المساكين الذين ينظرون تحت أرجلهم بين حصى الطريق لعلهم يجدون قصعة خبز، أما أصحاب الامتيازات والعقارات والأنفاق والأبراج والفنادق والمدن الترفيهية فلا ينظرون إلى تلك الأحلام بل ينظرون في امتداد الأفق حيث مصدر المال والسعادة وفي امتداد الأفق فقط ثمة انقسام لابد أن يستمر.أما الزائر الغريب وفيما يختفي ظله في المدى فسيسب ويلعن وهو يقول: الأفعال لا الكلمات يا أغبياء!.