الزيارة التي يقوم بها رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، ورافقه فيها خمسة من أعضاء المكتب السياسي، وسبقته إليها عائلته، تنطوي على أبعاد مهمة على أكثر من صعيد، ونتائجها الأكثر أهمية ستظهر في لاحق وربما في قريب الأيام. مشعل وزملاؤه تجولوا في قطاع غزة، ضمن برنامج مكثف جداً، ومرهق جداً، وضمن مواكب مهيبة، وحضور شعبي، ومظاهر احتفالية واسعة لكون الزيارة جاءت بعد الإنجاز الذي حققته المقاومة في مواجهتها للعدوان الأخير، وبعد الإنجاز السياسي الذي تحقق في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى كونها ترافقت مع احتفالات حماس بالذكرى الخامسة والعشرين لانطلاقتها.لقد كان لافتاً أن مشعل وزملاءه تجولوا بحرية تامة، وفي سيارات مكشوفة، وبإجراءات أمنية وفرتها كتائب عز الدين القسام، والشرطة وبقدر من الاطمئنان رغم وجود قوات الاحتلال بالقرب من حدود القطاع والتي تراقب عن كثب كل ما يدور من تحركات ونشاطات في كافة أرجاء القطاع. يمكن للبعض أن يدعي بأن "الزيارة التاريخية"، قد تمت رغماً عن الاحتلال وقواته، وكواحدة من نتائج الإنجاز الذي حققته المقاومة، ولكن من غير الممكن تجاهل أن هذه الزيارة ما كانت لتتم، لولا الموقف المصري القوي الذي يدعم الحركة، ولولا أن ترتيبات مسبقة قد جرت من قبل المصريين مع الجانب الإسرائيلي لضمان أمن مشعل والوفد المرافق له.لقد رفضت إسرائيل السماح لزعيم حركة الجهاد الإسلامي رمضان شلح الذي كان يرغب هو الآخر في القيام بزيارة للقطاع، الأمر الذي يشير إلى خبث النوايا الإسرائيلية، حين تسمح لمشعل وترفض لشلح أن يزور قطاع غزة.هذا يعني من ناحية أن حركة "حماس" قد أكدت حضورها على خارطة السياسة المحلية، والعربية والإقليمية، وأن أحداً لا يستطيع تجاهل وجودها القوي ودورها وتأثيرها، خاصة في ظل ما يقدمه لها من دعم "الربيع العربي"، الذي تحقق خلاله حركة الإخوان المسلمين، "إنجازات تاريخية".ويعني ذلك، أيضاً، أن ثمة تناغما شديد الوضوح بين سياسة حركة حماس وتوجهاتها، وسياسات وتوجهات حركة الإخوان في مصر، التي تدير أوضاع البلاد بشروط سياسية مقبولة على المجتمع الدولي، بما في ذلك التزامها باتفاقية "كامب ديفيد"، وبالعمل من أجل السلام في المنطقة.ويعني ذلك، أيضاً، أن حركة حماس، التي حظيت برعاية واهتمام عربي وإسلامي شعبي، ورسمي، تجتهد للدخول في مربع العمل السياسي، من مواقع غير متصادمة مع قواعد اللعبة السياسية في المنطقة، وإن كانت لا تزال تتمسك بمواقفها وخطابها السياسي في مواجهة الاحتلال وسياساته، وتتمسك بخطابها السياسي الذي يتصل بالحقوق والثوابت الوطنية الفلسطينية، وببرنامج وخيار المقاومة. التمسك بخيار المقاومة كما يتضح من تصريحات خالد مشعل، لا يعني أن الحركة تتجاهل الأبعاد والنضالات السياسية، بل إن هذه تؤسس لتلك، حتى لو تطلب ذلك إبداء بعض المرونة تجاه القضايا السياسية.لقد خيّب مشعل ظنون القيادات الإسرائيلية التي لا تزال تعمل على خط فصل قطاع غزة، ومواصلة التلاعب بالتناقضات الفلسطينية، وقد أبدى بعض هذه القيادات الندم على السماح لمشعل بهذه الزيارة، وبعضهم طالب وهدد بقتله.كانت خطابات وتصريحات مشعل منذ أن وطأت قدماه معبر رفح، تحمل رسائل كثيرة أولها للاحتلال بأن حماس ستواصل المقاومة بكافة أشكالها وليس العنيفة فقط، وأن حماس لن تسمح لإسرائيل بتنفيذ مخططاتها لفصل قطاع غزة، وان حماس في المرحلة الجديدة مستعدة تماماً لتفعيل دورها السياسي على صعيد أوسع من غزة وأوسع من فلسطين.خطاب مشعل العام، خطاب وطني، فوق فصائلي، خطاب زعيم وطني يمتلك رؤية واسعة للعمل السياسي فلسطينياً وعربياً ودولياً، وهو خطاب وحدوي واعد على غير ما ساد في خطابات سابقة كانت نتيجتها خيبات أمل متكررة إزاء إمكانية تحقيق المصالحة.مشعل أراد على نحو واضح أن يبلور من غزة، التي تحكمها حركة حماس، ومن موطن المقاومة المسلحة التي تتقدمها الذراع العسكرية للحركة، كتائب الشهيد عز الدين القسام. ومن غزة التي صدرت منها على ألسنة بعض قيادات حماس، أصعب التصريحات والاتهامات ضد الرئيس محمود عباس والسلطة، أراد أن يبلور رؤية جديدة مستقبلية لسياسات حركة حماس.في مناخات احتفالية شهدت تزايداً في شعبية حماس، كان على مشعل أن يعقلن الخطاب، وأن يضفي على الإنجاز العسكري طابعاً سياسياً واعداً ووطنياً وكأنه أراد إعادة تثقيف حركة حماس، ووضع حدود لسلوك وتصريحات مسؤوليها في القطاع إزاء القضايا الوطنية، بحيث تنقل الحركة من مربع الفئوية الفصائلية إلى مربع الوطنية، التي تشكل أساساً لإعادة صياغة القضية الفلسطينية بمحيطها العربي والإسلامي والدولي على نحو مختلف.خطاب مشعل كان مريحاً لسامعيه، ولم يكن خطاباً استهلاكياً، أو ذرائعياً، فلقد حمل نفسه، وحمل قيادة حماس مسؤولية إزاء تحقيق المصالحة الوطنية، التي ينبغي تحقيقها على أرض غزة أولاً، وخلال لقاء قريب برعاية مصرية، وعربية وإسلامية كما قال.وحسم مشعل الجدل بشأن منظمة التحرير الفلسطينية وما يتصل بذلك من موضوع الشرعية إلى موضوع التمثيل والإطار فالسلطة واحدة، ومنظمة التحرير هي مرجعية الشعب الفلسطينية، قالها مشعل بوضوح ما بعده وضوح.وفي السياق ذاته، يبدو أن المناخ الشعبي العام الذي أدركه مشعل في القطاع، والذي تحظى فيه حركة حماس بتأييد واسع، بات يشكل مصدراً للاطمئنان بشأن إمكانية الذهاب إلى انتخابات ديمقراطية نزيهة، تشكل أساساً لبناء الشراكة الوطنية على أسس جديدة.لقد اعترف مشعل على نحو واضح بأن حركته ارتكبت أخطاء، وأنها تتقاسم المسؤولية عما وقع، ولكنه أكد أن الخلافات قد باتت وراء ظهورنا، وأن لا حركة فتح قادرة على إقصاء حماس ولا حماس قادرة على ذلك وان كلا منهما يكمل الآخر في مسيرة العمل الوطني. التجاوب كان جيداً من السلطة وحركة فتح، في غزة وفي الضفة الغربية الأمر الذي يؤشر على أن زيارة مشعل لغزة تشكل بداية مرحلة جديدة في العمل الوطني نحو إعادة توحيد الصفوف، والاتفاق على برامج سياسية واستراتيجيات من شأنها أن تقلب الطاولة في وجه إسرائيل، وتدشن عهداً من الاشتباك والصراع الذي يبشر الفلسطينيين وقضيتهم بخير قادم.