شكل اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كدولة غير عضو بصفة مراقب ضربة شديدة للسياسة الإسرائيلية أفقدت حكومة بنيامين نتنياهو صوابها، ما جعلها تعلن عن خطوات مجنونة فاقمت من أزمتها وعزلتها الدولية. ويبدو أن القضية الفلسطينية الآن عادت إلى الحلبة الدولية بقوة وعنفوان لابد وأن تنعكس في خطوات دولية ضاغطة على إسرائيل بدأت بوادرها تلوح في الأفق. الاعتراف الدولي الذي يمثل تطويراً لموقف دولي اتسم على مر السنين بدعم الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وخاصة حقه في تقرير المصير في دولة خاصة به، وحل قضية اللاجئين بصورة عادلة. فقد اعترف العالم بمنظمة التحرير كعضو مراقب في الأمم المتحدة، ولكن خطوة الاعتراف بدولة فلسطين تحمل في طياتها نزع أهم الأوراق من يد إسرائيل، وهي ورقة الأرض. وبعد هذا الاعتراف لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية أن تواصل الادعاء بأن أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة هي أراض متنازع عليها. ويستطيع الطرف الفلسطيني في أي بحث لقضية الصراع أن يستند إلى هذا القرار باعتباره حقيقة لا جدال معها. ويمكن فقط بحث بعض التعديلات في الحدود على الجانبين وليس مبدأ حدود الدولة الفلسطينية التي تقع على خط الرابع من حزيران من العام1967. وهذا ما أفقد حكومة إسرائيل توازنها وجعلها تسارع إلى الإعلان عن سلسلة خطوات عقابية بحق السلطة والشعب الفلسطيني ومنها الإعلان عن بناء ثلاثة آلاف وحدة سكنية في منطقة E1 والتي تفصل بين مستوطنة "معاليه أدوميم" وبين مدينة القدس. بالإضافة إلى وقف تحويل الأموال الفلسطينية وسحب بعض بطاقات الشخصيات الهامة جداً، والعودة إلى سياسة هدم البيوت في القدس والمناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية. الموقف الإسرائيلي الجديد شكل تحديا وقحا للإرادة الدولية، فعلى الرغم من أن القرار ببناء وحدات سكنية في هذه المنطقة اتخذ قبل سنتين في عهد حكومة نتنياهو إلا أنه لم يطبق بسبب معارضة الإدارة الأميركية الشديدة لهذا المخطط الذي يلغي عملياً فكرة حل الدولتين التي قامت عليها العملية السياسية منذ التوقيع على اتفاق "أوسلو"، لأنها تقطع التواصل الإقليمي بين الأراضي الفلسطينية. ويظهر أن الموقف الأميركي الغاضب من القرار الإسرائيلي عبر عن نفسه في موقف أوروبي عملي ضد سياسة إسرائيل من خلال استدعاء ست دول أوروبية لسفراء إسرائيل لديها لتوبيخ سياسة دولتهم والاحتجاج عليها، وهي:فرنسا وبريطانيا واسبانيا وهولندا والسويد والدانمرك. وهناك احتمال أن تقوم دول منها باستدعاء سفرائها في إسرائيل وعدم الاكتفاء بتوبيخ السفراء لديها. بعض الأوساط الرسمية الإسرائيلية تعتقد أن إدارة الرئيس باراك أوباما تقف وراء الموقف الأوروبي الحالي، وهناك توقع بان تتأزم العلاقة مع واشنطن بسبب المواقف الإسرائيلية الجديدة، وستكون الساحة الأوروبية المكان الذي تصفي فيه هذه الإدارة حسابها مع نتنياهو الذي اصطف بجانب المرشح الجمهوري رومني ضد أوباما في الانتخابات الأميركية. ولا يستبعد الإسرائيليون أن تلجأ الإدارة الأميركية إلى اتخاذ مبادرة ما باتجاه إحياء العملية السياسية في أعقاب خطوة الأمم المتحدة خوفاً من تداعيات الموقف الذي اعتمدته إسرائيل ضد هذه الخطوة والذي يمكن أن يقود إلى اندلاع مواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وخاصة إذا ما واصلت إسرائيل سياسة البناء الاستيطاني الاستفزازية وأيضاً منع تحويل الأموال الفلسطينية للسلطة. هذا يؤكد أن الخيار الفلسطيني بإعادة الكرة مجدداً إلى الأمم المتحدة التي تسببت في مأساة الشعب الفلسطيني وتتحمل مسؤولية الوصول إلى حل عادل لقضيته، هو خيار صحيح، ليس فقط بسبب فشل المفاوضات الثنائية والوساطات المختلفة وخاصة وساطة الإدارة الأميركية التي تقود الرباعية الدولية، بل وكذلك أن إدخال العامل الدولي يعوض عن الخلل الكبير في موازين القوى لصالح إسرائيل ويمنع الأخيرة من فرض سياسة الأمر الواقع كحقيقة ينبغي الاعتراف بها. ولو كانت إسرائيل معنية بأي شكل بالعملية السياسية أو بتحقيق التسوية السياسية والسلام في هذه المنطقة لكانت تنتهز هذه الفرصة وتدخل فوراً في مفاوضات لتطبيق حل الدولتين على أساس الاعتراف الدولي الذي ينهي الجدل بخصوص الحدود، بدلاً من الوقوف في وجه الإرادة الدولية التي لن تستطيع إسرائيل معارضتها إلى مالا نهاية. ولربما لا يستوعب القادة الإسرائيليون أن المنطقة التي يعيشون فيها تمر بتغيرات جذرية قد تأخذ بعض الوقت ولكنها ستكون في النهاية سيفاً على الاحتلال والعدوان، فإرادة الشعوب لا يمكنها أن تقبل الظلم، وستنتصر حتماً، والفرق فقط سيكون بين أن تذهب إسرائيل إلى السلام بإرادتها الحرة وقرارها أم أن تقاد إلى ذلك بقوة الضغوط الدولية. من جانب آخر لا ينبغي أن نغتر بالإنجاز الذي تحقق في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فهذا وإن كان مهماً فهو ليس نهاية المطاف بل هو بداية عملية كفاحية شاقة وصعبة تبدأ بمواجهة إجراءات الاحتلال التي أعلن عنها مؤخراً وغيرها من سياساته وممارساته التي تستهدف النيل من حقوق شعبنا وقدرته على الصمود والمواجهة. وحتى نتمكن من ذلك لابد من الاستعداد الجيد واستخدام جميع أوراق القوة التي لدينا، وأهم هذه الأوراق على الإطلاق ورقة الوحدة الوطنية والمواجهة الشاملة مع سياسة الاحتلال برؤية وخطط وآليات متفق عليها بين مختلف القوى والفصائل. وبقدر استخدامنا لأوراقنا الجيدة بقدر ما ندفع العالم للتدخل. وإذا كنا لا نستطيع استثمار ما تحقق من انتصارات في غزة وفي ساحة الأمم المتحدة لكي نعي أهمية توحيد الجهود والطاقات في معركة التحرير والاستقلال فمتى يمكننا ذلك؟ نحن أمام معركة وجودية لا يمكن فيها التساهل مع من يعيق وصولنا إلى أهدافنا الوطنية.