النصر الدبلوماسي والسياسي الكبير الذي حققه الفلسطينيون هذا الاسبوع بقبول "فلسطيين" دولة (غير عضو) في الجمعية العامة للامم المتحدة يوفر فرصة تاريخية مهمة، وزخماً كبيراً لا بد من استثماره في انجاز استراتيجية فلسطينية جديدة وموحدة تبدأ بالمصالحة بين فتح وحماس.يأتي هذا الظفر السياسي في جانب منظمة التحرير الفلسطينية ليحسن من موقعها وموقع حركة فتح وينعشهما، وهو يأتي بعد الظفر السياسي الذي حققته حماس أيضا نتيجة لفشل عملية "عمود السحاب" الاسرائيلية.نظريا، نحن امام وضع داخلي اقليمي ودولي مختلف بشكل كبير عما كانته الامور قبل عامين. الطرفان المتصارعان في الساحة الفلسطينية يشعران بثقة اكبر في النفس ورأسمال سياسي مفاجئ. اقليميا تبدل الوضع، فالقاهرة التي كانت شبه محايدة او مهمشة ذاتيا ومنها اعلنت تسيبي ليفني بداية حرب "الرصاص المسكوب" على غزة العام 2008، لم تعد هي ذات القاهرة اليوم (رغم كل الارتباك الداخلي فيها). القاهرة في حرب "عمود السحاب" كانت مقر خالد مشعل وقيادة حماس، وكانت ملتقى قادة تركيا وقطر والعاصمة التي اوقفت العدوان.اسرائيل التي كانت تقرر متى تبدأ وتوقف حروبها ادركت ان الامور اختلفت، واضطرت لإيقاف الحرب من دون ان تحقق اهدافها. دوليا ودبلوماسيا، وعلى خلفية العنجهية الاسرائيلية المتزايدة خلال السنوات الماضية وسعار الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، ازداد التعاطف العالمي مع الفلسطينيين والذي انعكس في عملية التصويت في الامم المتحدة وعدد الاصوات التي حصلت عليها "فلسطين". كما انكشف بالتوازي مع ذلك مقدار العزلة الاسرائيلية الكبيرة. ومن المهم القول هنا ايضا، استطرادا وباعتبار الفوز بالتصويت كان متوقعا وتحصيل حاصل، ان اهمية الحدث الاممي الفلسطيني تتمثل تحديدا في كشف ضعف وانعزالية الموقف الاسرائيلي والاميركي، وما مثله التصويت من صفعة مدوية للاثنين. في الامم المتحدة بدت اسرائيل واميركا وحيدتين امام العالم بأسره، لأننا نعلم ان الاصوات التسعة المعارضة ليست سوى صدى كاريكاتوري وسخيف للموقف الاميركي. حتى ألمانيا المعروفة بموقفها المنحاز لإسرائيل والمكبلة سياسيا بإرث الهولوكوست لم تستطع ان تقف ضد قوة ومنطق التاريخ ولم تعارض القرار. الدرس الاهم في الخطوة الفلسطينية يكمن في إعادة الاعتبار للاستراتيجية المعروفة تقليديا وهي ان خير وسيلة للدفاع هي الهجوم. كلما سكن الفلسطينيون عن الحركة واكتفوا بتلقي الضربة تلو الاخرى من اسرائيل تضاعفت الخسارات، وكلما ابقوا على المبادأة والمبادرة حققوا مكاسب واربكوا عدوهم. الشواهد على الارض وخلق الوقائع عليها من قبل اسرائيل اكثر من ان تحصى وتقدم الدليل اليومي تلو الدليل.الموقف الفلسطيني وموقف الرئيس الفلسطيني الذي صمد ضد كل الضغوط وخاصة الاميركية من اجل عدم التوجه للامم المتحدة هو حجر الاساس هنا، وقد اثمر كثيرا. على ذلك وانطلاقا من هذا الدرس، اي مواصلة الهجوم وصوغ استراتيجية اساسها المبادأة وقائمة على توليد الزخم بشكل دائم، يجب على الرئيس الفلسطيني ان يتوجه الى غزة اليوم قبل الغد، وان لا يكتفي بإنجاز الامم المتحدة. هدف الزيارة هو انجاز المصالحة اولا، لكن الانطلاق بها ومنها الى الامام. الركون الى ما تم انجازه وعدم البناء عليه يعني تعريضه للتذرية حيث ستبدأ عوامل التعرية في الاشتغال على اعادة الامور كما كانت. استراتيجية اسرائيل في الرد على الانجاز الفلسطيني سوف تقوم في جزء كبير منها على إثبات ان لا شيء تغير على ارض الواقع، وسوف تعمل على اعادة الفلسطينيين الى موقع الدفاع ورد الفعل وانهاكهم المتواصل في التعامل مع السياسات والخطوات الاسرائيلية الاحادية التي لن تنتهي، والتي تستهدف استنزاف جهدهم كي لا يتوفر لهم الوقت لأية استراتيجية مبادأة هجومية.داخليا وعلى صعيد الانقسام الفلسطيني كان ابو مازن قد فوت اكثر من فرصة لزيارة غزة وقطع الطريق على استمرار الانقسام وتكريسه. بعيد سيطرة حماس العسكرية على قطاع غزة في صيف 2007 والمرارة الدموية والوطنية التي عصفت بالشعب الفلسطيني آنذاك وجه كاتب هذه السطور نداءً الى الرئيس كي يزور غزة فورا ويعمد الى توزيع وقته بين مقر الرئاسة في رام الله (المقاطعة) ومقر الرئاسة في غزة (المنتدى)، حتى يمسك بالامور من قمتها وكي يتم حشر الصراع بين فتح وحماس تحت سقف الرئاسة وتحت سقف النظام السياسي الفلسطيني وليس فوقه. عندها ربما كان بالإمكان تحجيم الانقسام ومحاصرته ثم معالجته، والاهم عدم تركه للتغول جغرافيا وديموغرافيا ثم وطنيا. وخلال السنوات الماضية كان على ابو مازن ان يجد الظرف المناسب، او ان يختلقه، لزيارة غزة لتعزيز فكرة الوطنية الفلسطينية الموحدة (حتى لا نقول الوحدة الفلسطينية التي لا تزال غائبة). وحديثا جدا فوت ابو مازن فرصتين كبيرتين لزيارة غزة ونقل ملف الوحدة الوطنية والمصالحة واعادة تقديم الوطنية الفلسطينية للآخرين والعالم على اساس جمعوي، الاولى كانت خلال زيارة امير دولة قطر لغزة في تشرين الاول الماضي حيث كان على ابو مازن ان يكون في استقباله هناك، والثانية خلال حرب "عمود السحاب" حيث كان على ابو مازن ان يزور القطاع ويكون في استقبال رئيس الوزراء المصري او اي وفود رسمية اخرى، جنبا الى جنب مع اسماعيل هنية.الآن تتهيأ الظروف الناضجة لفرصة اخرى للقيام بهذه الزيارة واعتبارها بداية تواصل على اعلى مستوى مع قطاع غزة وقيادة حماس هناك. مرة اخرى الزخم الدولي الكبير والتلاحم والتأييد الفلسطيني العارم للخطوة يشيران لـ "أبو مازن" باتجاه غزة. يُضاف الى ذلك ان موقف حماس هذه المرة من الخطوة الاممية كان ايضا ناضجا ومسؤولا وليس مناكفاً. تصريحات خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس كانت وما زالت في غاية الاهمية وهو يقول إن الخطوة الاممية هي مكسب استراتيجي لكل الفلسطينيين وإنها تمهد الطريق للمصالحة.زيارة ابو مازن لغزة سوف تفكك مسبقا مجموعة من الاحراجات السياسية القادمة التي ستحاصر الرئاسة الفلسطينية والتي سوف تتوازى مع كل زيارة يقوم بها مسؤول رسمي، عربي او غير عربي الى قطاع غزة في الحقبة القادمة. بعد زيارة امير دولة قطر للقطاع، وهي خطوة شجاعة بكل المقاييس، ثم زيارة رئيس الوزراء المصري، ووزير الخارجية التونسي، ووفود الجامعة العربية وغيرها، كسرت قيود دبلوماسية كثيرة وزال التردد عند كثيرين. احدى النتائج المشتركة لفشل "عمود السحاب" ونصر الامم المتحدة سوف يتمثل في كسر اضافي لقيود الحصار على غزة وتوافد زوار جدد عليها، وبمستويات اعلى. نعلم جميعا ان رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان يضع الزيارة على جدول اعماله وينتظر الوقت المناسب. وهناك آخرون سوف يشعرون بأن الوقت نضج لمثل هذه الخطوة. لنتخيل هنا ان اردوغان يزور غزة وما سوف يرافق مثل هذه الزيارة من زخم دبلوماسي واعلامي وشعبي، بينما ابو مازن في مكتبه في رام الله في نفس وقت الزيارة؟ هذه الزيارات للقطاع وهي مطلوبة بكل تأكيد حتى تكسر الحصار وتنهيه، قد تتحول الى تكريس شرعية سياسية انفصالية لقطاع غزة وحماس على رأسها. ليس من المعقول بطبيعة الحال عدم الترحيب في من يريدون زيارة القطاع وكسر الحصار والوقوف مع الفلسطينيين، لكن من الممكن تعظيم المكاسب من تلك الزيارات وتحويلها الى روافع للمصالحة بدل أن تكون اوتاداً تكرس الانقسام. الكرة في ملعب الرئيس.Email: khaled.hroub@yahoo.com