انتهى العدوان على غزة بعد ثمانية أيام من الغارات الجوية المتواصلة لكن عدوان إسرائيل على الشعب الفلسطيني وعلى فلسطين لم ينته بالطبع. لقد عاش القطاع أياماً عصيبة حاولت خلالها اسرائيل استعراض قوتها الجوية وهددت باللجوء للاجتياح البري إلا أنها وأمام الكثير من العوامل اضطرت لوقف العملية وتم التوصل إلى تهدئة أوقفت العدوان المحتمل. ليس من شك بأن إسرائيل لم تتوقع الكثير مما رأته في الحرب خاصة حين دكت الصواريخ تل أبيب وأطراف القدس وبات واضحاً بان ثمة قوة ردع فلسطينية تستطيع أن تؤلم المواطن الإسرائيلي ناهيك عن مئات الصواريخ والمقذوفات التي انهمرت على محيط قطاع غزة. بالطبع يستطيع الفلسطينيون أن يقولوا الكثير عن ذلك وعن هرولة الإسرائيليين للملاجئ وعن وقوف القبة الحديدية شاخصة في السماء عاجزة عن إسقاط اكثر من ثلث الصواريخ، والحقيقة أن ثمة تطوراً واضحاً في القدرات المحلية كان له دور كبير في ثني إسرائيل عن مغامرة قد تكون مكلفة بالنسبة لها أو على الأقل لم تعمل حساباً لها. تحدثت إسرائيل كثيراً قبل ذلك عن تطور قدرات الفلسطينيين في غزة وقالت إن الفصائل امتلكت صواريخ ومقذوفات وراجمات وصلتها من مصادر مختلفة بعضها من ليبيا بعد انهيار نظام القذافي، وبعضها من السودان، بجانب مصادر التزود الرئيسية مثل إيران وسورية وحزب الله، وفق المصادر الإسرائيلية، لكن على ما يبدو فإن إسرائيل لم تتوقع أحد الاحتمالين وهما أولاً أن تتطور قدرات الفصائل الصاروخية متقدمة للمدى التي تضرب تل أبيب والقدس والثاني ينطلق من أن إسرائيل تعرف تطور تلك القدرات لكنها لا تتوقع أن تقوم تلك الفصائل بالتصعيد للدرجة التي تضرب بهما المدن الكبرى، وهو ما بدا واضحاً من التصريحات التي صدرت عن المسؤولين الإسرائيليين مستغربين كيف تقوم الفصائل بضرب المدينة المقدسة أو تصريح احد ناطقي الجيش مستهجناً أن يتم ضرب "أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين". ولكن من المؤكد بان إسرائيل أخذت على حين غرة حين رأت الصواريخ تسقط على تل أبيب وان فرص استمرار سقوطها واردة حتى مع العملية البرية وأن ثمة وقتاً أطول هي بحاجة إليه حتى بعد الاجتياح البري حتى تتمكن من القضاء على الراجمات ومخازن الصواريخ، وإذا ما جاء هذا الوقت سيكون قد أصاب المدن الكثير من الخسائر المؤلمة وستكون الانتخابات قد اقتربت ولن يكون بمقدور أحد أن يتوقع النتائج. لكن ثمة أسئلة حقيقة أعمق حين يخمد صوت المدافع وتعود الطائرات إلى مهابطها ويعود الناس إلى أعمالهم وتفتح المحال التجارية، وهي أسئلة تمس بمجملها ليس حياة الناس ومستقبل هذه الحياة على تلك البقعة الجغرافية بل جوهر الصراع ومستقبله أيضاً. إن قراءة اتفاق التهدئة تقترح أن ثمة أسئلة مقلقة على اكثر من صعيد. فالشروط الفلسطينية أو إذا احب احدهم القول المكتسبات الفلسطينية لم تنجز شيئاً على مستوى الحقوق بل هي جاءت لتعيد تثبيت وترتيب الأوضاع في القطاع. فالعدوان جاء وانتهى في حين أن شيئاً عميقاً لم يتغير على صعيد الصراع واستراتيجيات التعامل معه. صحيح أن ثمة وعياً إسرائيلياً جديداً يقول إن الإسرائيليين مرشحون للمعاناة اكثر إذا اقدموا على مهاجمة القطاع، لكن هذا الوعي لا ينسحب على مواصلة إسرائيل انتهاك الحقوق الفلسطينية وضرب عرض الحائط بكل المواثيق والأعراف الدولية. فالاتفاق الذي أبرم لم يمنع الإسرائيليين من اعتقال نواب "حماس" بعد سريان اتفاق التهدئة بأقل من ثمان وأربعين ساعة ولم يمنعها عن مواصلة تهويد القدس والخليل كما لم يوقف اعتداءات المستوطنين المتواصلة على المواطنين. ما يقترحه هذا التحليل بأن الاتفاق كان اتفاقاً على "هدوء مقابل هدوء" في غزة. فإسرائيل توقف الاغتيالات والاجتياحات مقابل وقف إطلاق الصواريخ من غزة، طبعاً بجانب بعض التحسينات المعيشية مثل السماح للصيادين بالعودة للدخول لعمق 6 أميال والسماح للمزارعين بالذهاب لمزارعهم على الشريط الحدودي والعمل على فتح المعابر. لكن من ناحية عسكرية فإن نتيجة الاتفاق هي الهدوء مقابل الهدوء. وبكلمة أخرى وقف المقاومة مقابل وقف إسرائيل لعملها العدواني على القطاع. فالقصة ليست في منع العدوان البزي بل في الحقوق الوطنية.وإن نظرة عميقة إلى تعامل إسرائيل مع غزة تكشف عن أن تلك كانت رغبة إسرائيل منذ البداية، فإسرائيل أدارت ظهرها لغزة مبكراً ولم تعد ترغب أن تحتل القطاع أو أن يكون جزءاً منها، حتى في سيناريوهات الضم لا يرد القطاع ضمن أي سيناريو وحتى في الحلول الإقليمية البديلة لحل الدولتين فإن القطاع خارج الحسبة الإسرائيلية. وعليه فإن "حماس" لا تبدو طليقة اليد في المقاومة خارج حدود قطاع غزة وتحديداً في الضفة الغربية، وعليه كان يجب ربط هذا الاتفاق بالحالة في الضفة الغربية كي لا تكون غزة شيئاً منفصلاً عن الضفة فالاحتلال واحد والأرض واحدة والمصير واحد. من جهة ثانية ماذا لو أن إسرائيل جاء على بالها أن تضرب غزة مرة أخرى بعد سنة او اثنتين أو ثلاث طبعاً سنضرب تل أبيب والقدس وربما نكون اكثر إيلاماً ثم ماذا بعد ذلك!!! اتفاق تهدئة جديد!!! ما تقترحه علامات التعجب تلك أن غياب البرنامج السياسي الإجرائي والذي يصار إلى تنفيذه هو ما يسبب حالة اللايقين هذه. تبدو الرؤية الموجودة تقتصر على معرفة غزة وكيف يصار إلى التعامل مع غزة دون تطوير لتصور سياسي يستطيع أن يجعل من ضرب الصواريخ لتل أبيب والقدس مثلاً أداة إنجاز وتجعل من فلسطين اكبر من غزة. وعليه فإن ثمة حاجة للخروج من هذا العدوان بخطوة سياسية قادرة على إعادة البوصلة، خطوة تعيد أولاً توحيد الصف الفلسطيني وتجعل ثانياً من القدرات الفلسطينية أداة ضغط لإنجاز الحقوق السياسية الأخرى وليس مجرد الحفاظ على حكم غزة وفتح المعبر مع مصر. إن قدر الشعوب دائماً يكمن في تجنب أن تعاندها أقدارها لا أن تقف عاجزة عن مواجهة تلك الأقدار.