مرة جديدة اندلعت المواجهات بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة في قطاع غزة، وعملية البدء كانت قصف إسرائيلي أدى إلى مقتل طفل فلسطيني، أعقبه رد من " لجان المقاومة الشعبية"بإطلاق صاروخ ضد جيب إسرائيلي أدى إلى إصابة 4 جنود، كانت إصابة احدهم خطيرة، وهكذا تسلسلت أعمال القصف والقصف المتبادل في موجة أخرى من التصعيد الذي يستوجب أحد خيارين: إما التوصل إلى تهدئة، أو البقاء على خط النار بما يحمله ذلك من احتمالات توسيع نطاق العدوان الإسرائيلي إلى حرب شاملة على قطاع غزة.إسرائيل معنية بنار هادئة على جبهة الجنوب، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على ما يبدو غير معني باجتياح بري لغزة قد لا تكون نتائجه ملائمة له خلال الانتخابات العامة القادمة التي ستجري في شهر كانون الثاني القادم، خاصة إذا استخدمت حركتا "حماس" و" الجهاد الإسلامي" الصواريخ المتطورة التي لديها، حيث تقول الجهات الأمنية الإسرائيلية: إنهما تملكان صواريخ" فجر" التي يصل مداها إلى 75 كيلومتراً يمكنها أن تصل إلى كل المناطق في وسط وجنوب اسرائيل. فمثل هذا السيناريو ربما يمس بمكانة وسمعة نتنياهو. والأفضل بالنسبة له أن يكون هناك بعض التصعيد ونار يمكن السيطرة عليها، وفي إطارها تدعي إسرائيل أنها فرضت وقفاً لإطلاق النار على فصائل المقاومة في غزة. وهنا تبدو الحاجة أكثر إلى زعيم يميني مثل نتنياهو لا يخضع لـ" الإرهاب" الفلسطيني ويستطيع مواجهته دون الدخول في مفاوضات مع الجانب الآخر.ومن المستبعد أن تلجأ الحكومة الإسرائيلية إلى تطبيق ما قيل إنه سيناريو ما قبل العملية البرية الذي نشره التليفزيون الإسرائيلي، والذي يتضمن قصف مقار سياسية وتنظيمية، وقصف منازل وبنية تحتية، واغتيالات، وقطع الكهرباء، وإغلاق المعابر، وعمليات برية محدودة. لأن مثل هذه الخطوات ستقود حتماً إلى رد فعل قوي من جانب الفصائل في غزة وهذا بدوره سيؤدي إلى تصعيد كبير ينتهي بحرب واسعة وشاملة. فإذا كان نتنياهو غير معني بعملية برية فلن يلجأ إلى تنفيذ السيناريو المذكور. وفقط في حالة واحدة يمكن الذهاب نحو سيناريو مشابه، وهو أن تحصل عملية فلسطينية تؤدي إلى مقتل عدد من الإسرائيليين. عندها قد يضطر نتنياهو تحت ضغط الشارع اليميني إلى الذهاب نحو عملية واسعة متدحرجة.الحرب والتهدئة على الجبهة الجنوبية لعبة مستحبة من قبل الحكومة في إسرائيل، تشارك فيها حركة "حماس" باقتدار، ففي إسرائيل يريدون تركيز أنظار الجمهور على الأخطار الخارجية الآتية من خلف الحدود، وهذه تتطلب عدم التركيز على أولويات أخرى تهم الناس وتخفق الحكومة في تلبيتها مثل القضايا الاقتصادية-الاجتماعية ،وحتى الحاجة إلى تسوية سياسية. وكل ما هو مطلوب هو الانتقام والرد بالقوة ضد الأعداء، وهذه المهمة لا يلبيها سوى القادة اليمينيون وعلى رأسهم نتنياهو.أما "حماس" فهي تريد بين فترة وأخرى تذكير الناس بأنها فصيل مقاومة ، ولكنها لا تريد حرباً أو عمليات مقاومة يمكن أن تؤثر على بقاء سيطرتها على قطاع غزة، أو أن تمس بقياداتها ومصالحهم ورغبتهم في الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، فالسلطة بالنسبة لهؤلاء هي عبارة عن مكاسب مالية و"برستيج" سياسي. ويتفق الطرفان على الحفاظ على الخطوط الحمر بينهما في هذه اللعبة. والآن تدخل أطراف إسرائيلية أخرى على خط هذه اللعبة لاعتبارات انتخابية وبعضها يصب الزيت على النار ولسان حالها يريد توريط نتنياهو في حرب ، أو الظهور في موقع الأكثر حرصاُ على سلامة الجمهور. الغائب في موضوع التصعيد والمواجهات على الجبهة الجنوبية هو البحث عن حل جذري لهذا الوضع، أي حالة الصراع. حتى الذين يريدون التوصل إلى تسوية مع "حماس" هم يريدون حلاً مؤقتاً يقوم على هدنة طويلة الأمد مقابل الاعتراف بسلطة "حماس" والحفاظ على الوضع الراهن. وهذا عملياً لا يمكن أن يستمر لفترة تمتد لسنوات عديدة بعمر التهدئة أو الاتفاق لأن الوضع القائم في غزة قد لا يستمر، في حال ثار الشعب من أجل إجراء انتخابات ومن اجل إنهاء الانقسام. كما أن إسرائيل تتجاهل مطالب الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال. وبالتالي لا يمكن لأي اتفاق ان يصمد طالما بقي الاحتلال قائماً. ولا يمكن لمقاومة الشعب الفلسطيني أن تخمدها أية اتفاقات لا ترق إلى مستوى الحل الدائم للصراع. و لو استتب الأمر في قطاع غزة لمدة ما لن يستتب في الضفة التي تعاني من السياسة الاستيطانية التي تبتلع الأرض وتدمر فكرة حل الدولتين، ولا تبقي مجالاً لتحمل إجراءات الاحتلال والصبر عليها. والأمور في الضفة المحتلة على درجة كبيرة من التوتر ليس فقط نتيجة للممارسات الاحتلالية ، بل كذلك لان السلطة الوطنية فقدت مبرر وجودها في ظل اتفاق "أوسلو" الذي انتهى مفعوله منذ مدة طويلة، وحتى وظيفتها المعتادة في دفع رواتب موظفيها باتت غير قادرة عليها. وهناك حصار اقتصادي ضدها نتيجة لوقف المفاوضات السياسية مع إسرائيل، وهذا الوضع سيتفاقم على ما يبدو بعد ذهاب القيادة الفلسطينية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لطلب الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو. فإسرائيل والولايات المتحدة تهددان بفرض عقوبات على السلطة، من شأنها أن تزيد من صعوبة الأوضاع الاقتصادية في مناطق السلطة. و الوضع القائم السيئ الحالي والقادم الأسوأ سيجعل من احتمال انهيار السلطة وتدهور الأمن أمراً محتملاً ومتوقعاً. والحديث عن انتفاضة وفوضى يبدو واقعياً. وعليه لا يبدو أي حل مؤقت جيداً لأمن إسرائيل ويضمن لها الاستقرار والقدرة على العيش في هذه المنطقة بصورة طبيعية.ففكرة الحرب تمنح إسرائيل وقتاً للهروب من الاستحقاقات السياسية ولكنها تفاقم المخاطر التي تحيط بإسرائيل ، فالحرب على غزة في عام 2008 لم تؤد إلى أمن أكثر ، بل العكس هو الصحيح. وأي تهدئة لن تكون سوى مسكن لايام أو شهور ليس أكثر. لتظل إسرائيل في حالة هرب حتى تجد نفسها أمام حل تفرضه عليها موازين القوى المحلية والدولية بما فيها الجغرافية والديموغرافية، ولن يكون هناك مناص من حل دولة واحدة يعيش فيها جميع الفلسطينيون والإسرائيليون الراغبون في ذلك مهما امتد الزمن و تضاعفت الآلام والعذابات.