لم تكتمل الدائرة التي رسمها نتنياهو لنفسه ولمستقبله السياسي في السنوات القادمة فقد نجح أوباما. يكاد رئيس وزراء إسرائيل أن يكون الوحيد الذي لم يجاهر فقط بتأييد المرشح الرئاسي الذي يرغب هو ومعسكره في أن يراه تحت قبّة البيت الأبيض وإنما حرق الكثير من السفن والمراكب الراسية في ميناء الانتخابات الأميركية. لماذا فعل نتنياهو ذلك ولماذا هذه الخفّة غير المعهودة في تاريخ "التدخل" الإسرائيلي في هذه الانتخابات؟ أغلب الظنّ أن نتنياهو قد أسّس لسياساته انطلاقاً من الوقائع التالية: 1- إن الولايات المتحدة لا تقوى أو لم تعد تقوى على ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل، وهي عاجزة عن إلزام إسرائيل بأي مواقف لا تروق لليمين الإسرائيلي بغض النظر عن الانتماء الحزبي للرئيس القادم، ما يعطي له (أي نتنياهو) الفرصة الكافية ودون أية مخاطرة للانتقال من دائرة التدخل غير المباشر إلى دائرة التدخل المباشر. حسابات نتنياهو ليست جزافية، لأن العامل الإسرائيلي وخصوصاً في السنوات الأخيرة تحول بالفعل إلى عامل داخلي أميركي، وأصبحت الأجندة الإسرائيلية بما في ذلك الأجندة اليمينية في إسرائيل جزءاً عضوياً من ملفات الصراع الداخلي في الولايات المتحدة. أقصد أن هذا التدخل الإسرائيلي مهما كان فجّاً وفظّاً فإنه لم يعد يحسب كتدخل خارجي في الشؤون الداخلية الأميركية أو ان هذا ما يعتقده نتنياهو على الأقل. 2- استطاعت إسرائيل عَبر شبكة آليات التأثير التي تمتلكها أن تجعل السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الإقليم تراوح ما بين التطابق والتقارب الشديدين. وتحولت الأولويات الإسرائيلية إلى أولويات أميركية مع فارق أو فوارق تتعلق أساساً بشكل التعبير عن هذه الأولويات، أو وتيرة العمل عليها أو الجداول الزمنية المناسبة لها. 3- عززت التغيرات والتحولات العربية الأخيرة عَبر ثورات "الربيع العربي" القناعة لدى الإدارة الأميركية أن إسرائيل هي الحليف الوحيد الآمن والمستقر بالمقارنة مع مجمل بلدان الإقليم، وهو ما يعتبره نتنياهو المغزى الأهم والأعمق للنتائج المباشرة لهذه الثورات. 4- يستند نتنياهو في هذا "المغزى" إلى واقع التحولات المستمرة في معظم دول الإقليم وارتباك المشهد السياسي في معظمها وتعدد احتمالات تطورها بما في ذلك احتمالات سيطرة قوى متطرفة على مقدّراتها أو تزايد تأثير العناصر المتطرفة فيها. 5- تزايد احتمالات التشظّي الطائفي من وجهة نظر نتنياهو وكذلك المذهبي والعرقي في هذه المجتمعات وصولاً إلى إمكانيات مفتوحة على تغيرات جيوسياسية وربما قيام كيانات جديدة واختفاء كيانات أخرى. الخارطة التي رسمها نتنياهو لنفسه في إسرائيل تشبه الخارطة الإقليمية والدولية التي تحيط بها إلى حد بعيد. فالمعارضة في إسرائيل تعيش في سلسلة طويلة من الأزمات مع كامل التحفظ على طبيعة هذه المعارضة وجدّيتها. حزب "كاديما" وهو الحزب الأكبر منقسم على نفسه ولم يعد له التأثير القوي في الساحة السياسية، وهو مرشح إما للاختفاء نهائياً أو الانقسام إلى كتلتين رئيسيتين أو أكثر. حزب العمل بدوره خسر كتلة مهمة من قوامه بعد "استقلال" ـ والأصح القول ـ انفصال باراك عنه رسمياً، وهذا الحزب يمكن أن يستعيد بعضاً من إرثه التاريخي ولكنه لا يمتلك القوة والوقت الكافي بما يؤهله لعودة بمستوى تهديد الحلف اليميني. إذاً التهديد من على يسار نتنياهو هو تهديد ضعيف حتى الآن، ولم يتبلور بصورة نهائية، والوقت عامل حاسم في مسار تطور هذا التهديد. أما من على يمين نتنياهو فقد تم إغلاق الباب أمام هذا "الخطر" بعد موافقة "الليكود" رسمياً على التحالف مع ليبرمان، والنزول في قائمة واحدة ستؤدي في أغلب الظن إلى انخراط الأخير في عملية اندماجية مع الليكود. بمعنى آخر لا يرى نتنياهو أن الولايات المتحدة تمتلك حليفاً بديلاً عنه حتى الآن، وبالتالي فإن الباب مفتوح أمام اليمين الإسرائيلي لدعم المرشح الجمهوري وإغلاق الدائرة إذا أمكنه ذلك. لم يرق لنتنياهو خطاب أوباما في جامعة القاهرة ولم يكن سعيداً بالتزام أوباما بحل الدولتين، أو حتى تخلّي أوباما السريع عن حسني مبارك. كما أن نتنياهو لم يكن مقتنعاً بما قاله هو نفسه في "بارـ إيلان" ولكنه "هاود" السياسة الأميركية إلى حين تمكّنه من وضع الرئيس الأميركي في دائرة الابتزاز المباشر من أجل مسألتين رئيسيتين: الأولى، هي تهميش الاهتمام الأميركي والدولي والإقليمي بالقضية الفلسطينية في ظل التغيرات التي تعصف بالمنطقة. أما الثانية، تحويل الملف النووي الإيراني إلى أولوية مطلقة ومحاولة بناء حلف دولي وإقليمي على هذا الأساس. لم ينجح نتنياهو في إقامة الحلف وصولاً إلى الضربة العسكرية ولم ينجح في تهميش القضية الفلسطينية إلاّ في حدود ضيقة بعد تجديد التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة. لكن نتنياهو مع ذلك حول الاهتمام عن القضية الفلسطينية إلى حد ما وركز اهتمام العالم وحتى دول الإقليم على الملف النووي الإيراني. نتنياهو كان يأمل أن يكون مسعاه قد وصل إلى النهاية السعيدة بانتخاب ميت رومني وذلك بهدف إيجاد الانسجام المطلوب لأولوية الملف النووي وصولاً إلى الضربة العسكرية ولثانوية القضية الفلسطينية وصولاً إلى إنهاء حل الدولتين، وفرض حكم ذاتي إداري على جزء مقطّع الأوصال في الضفة الغربية، بعد فصل غزة، وبعد عزل القدس بالكامل والسيطرة المباشرة على كامل شريط الغور. كان نتنياهو على قناعة تامة أن أوباما في ولايته الثانية سيكون عقبة في طريق برنامجه، وأن قدرته (أي نتنياهو) على إعادة وضعه في دائرة الابتزاز المباشر ستكون مهمة أصعب من ذي قبل وبما لا يقاس، وهو الأمر الذي حوّل المعركة الانتخابية الأميركية إلى جزءٍ من معركة فرض وتطبيق هذا البرنامج. ولا تكمن مشكلة نتنياهو مع إعادة انتخاب أوباما هنا فقط، لأن معركة الانتخابات الإسرائيلية هي بدورها ستتأثر وربما بشكل كبير وأكبر من ما تبدو عليه الأمور اليوم بهذه النتيجة. ولا يقتصر الأمر هنا على البعد النفسي عند الناخب الإسرائيلي وإنما ـ وربما هذا هو الأساس ـ شعور الكتل المختلفة في المعارضة وعلى الرغم من كل ما أشرنا إليه في مواطن الضعف والتشتت لديها بأن إعادة انتخاب أوباما لولاية ثانية تفتح الأفق أمام هذه المعارضة لخوض معركة الانتخابات الإسرائيلية بصورة مختلفة بحيث يكون الانسجام مع سياسات أوباما أحد أهم عناوينها. لا نرغب أبداً في أية مبالغة حول هوامش الخلاف بين أوباما ونتنياهو، ولكننا لا نرغب بالمقابل في تجاهل هذه الهوامش وتأثيراتها على العلاقة الأميركية الإسرائيلية. لم تكتمل الدائرة التي رسمها نتنياهو لنفسه ولمستقبله السياسي وحتى أن الدائرة التي أعتقد أنه أغلقها بالكامل داخلياً ما زالت مفتوحة، وقد يكون التدخل المباشر والفظّ الذي مارسه علناً وبصورة مفضوحة ضد الرئيس أوباما ولصالح المرشح المهزوم ميت رومني هي الغلطة التي تحسب بألف غلطة، وقد يكون نتنياهو أمام مأزق كبير في وقت اعتقد فيه أن "غلطته" لا تنطوي على مخاطر حقيقية. لقد بالغ نتنياهو عندما اعتقد أن بإمكانه أن يتصرف في واشنطن بنفس الوسائل والأساليب وأحياناً الألاعيب التي يتصرف بها في تل أبيب، وأخطأ حينما اعتقد ان تحول العامل الإسرائيلي إلى عامل كبير ومهم في المعادلة الداخلية الأميركية يعطيه أدوراً أكبر من حجمه وأبعد من حدود معروفة ومرسومة بدقة، ولهذا كله فإن نجاح أوباما خبر سيئ لنتنياهو.