في السنوات الأخيرة ومنذ أحداث الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة التركية في مايو 2010، والتي راح ضحيتها العديد من الشهداء والجرحى الأتراك، تردت العلاقات التركية الإسرائيلية إلى أدنى مستوياتها، حيث توقفت كل أشكال التنسيق الأمني بين انقرة وتل أبيب، كما تمّ تخفيض التمثيل الدبلوماسي إلى الدرجة الثالثة. في المقابل، توسعت تركيا أردوغان في علاقاتها العربية والإسلامية، ووجدت احتضاناً جماهيرياً كبيراً، كما انشرح صدر الجميع بالمنطقة لمثل هذا التحول الاستراتيجي، والذي أبرزته أشكال الحفاوة البالغة التي قوبل بها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان على المستويين الرسمي والشعبي في معظم الدول التي شهدت تحركات شعبية معبرة عن صحوة البلدان وثورتها وتطلعها إلى تركيا أردوغان كنموذج متألق للحياة السياسية والمجتمعية، وتجربة تستحق الاحتذاء في النهضة العمرانية والتطور الاقتصادي. إن القوى السياسية والحزبية في العالم العربي سواء منها الإسلامي والعلماني؛ بشقيه الليبرالي واليساري، أصبحت تنظر إلى تركيا أردوغان باعتبارها المشهد الذي يتمناه كل منها للحياة السياسية التي تقوم ركائزها على الشراكة السياسية والتداول السلمي للسلطة، بعيداً عن مظاهر الاحتكار والتفرد، وهيمنة الحزب الواحد والعقلية الاقصائية، والتي سيطرت على مقدرات المنطقة وسياساتها منذ خمسينيات القرن الماضي. لقد طرح أردوغان منذ وصوله إلى الحكم، وفوز حزبه الكبير - العدالة والتنمية – بالأغلبية البرلمانية، أفكاراً خرجت عن مألوف الرؤية لدى الإسلاميين، واعتمدت مبدأ تعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وفقاً للمعايير الإنسانية والاعتبارات الدولية، وتبنى سياسة الانفتاح على الآخر، بحيث يجد الجميع ضمن حدود الوطن الواحد مساحته الكاملة من الحرية، مع الأخذ بعين الاعتبار ما له من حقوق وما عليه من واجبات. إن السيد أردوغان لم يعتمد – فقط - على ما لديه من كاريزما وسمعة طيبة، لأنه يعلم أن الكاريزما وحدها لا تبني الأوطان ولا تحفظ الحكومات من السقوط، إذ إن المطلوب لكسب الناس والحفاظ على الشعبية هو معطيات الواقع المعاش، وحجم التحسن في حياة الناس، سواء أكان هذا على مستوى الراتب والسكن أو اتساع آفاق الحلول لمشكلات البطالة وتكدس أعداد الخريجين، وضغط حركة السير على الطرقات، وكذلك سهولة الوصول لوسائل النقل العام.. ونحو ذلك. إن تركيا من خلال عنوانها الكبير استانبول؛ العاصمة الاقتصادية والسياحية والثقافية، تمثل – اليوم - الدليل على المكانة التي وصل إليها حزب العدالة والتنمية في قيادة هذا البلد العريق بتاريخه وتمدداته الحضارية لجغرافيا العالم السياسية على مدى ثمان قرون خلت، ما تزال شواهدها شاخصة كمعالم أثرية ووقفيات خيرية في بلدان عربية وإسلامية وحتى أوروبية. من هنا، فإن مشاهدة استانبول الجغرافيا والتاريخ والحضارة لها نكهة إنسانية خاصة، لا يدركها إلا من زارها وتجول في أحيائها العثمانية العتيقة كمنطقة الفاتح وسلطان أيوب، وطاف بمساجدها وقصورها ومتاحفها وأزقتها الضيقة وأسواقها الشهيرة، وكذلك المطاعم المنتشرة على طول شواطئ بحر مرمرة ومضيق البسفور. استانبول المدينة التي لا ترى فيها إلا حدائقها الغنّاء، وشوارعها التي تسحرك هندستها ونظافتها وجمالها الأخاذ، والتي تجعلك تشعر بالفخر؛ لأن مشهد الإسلام الذي يراه الأوروبيون من خلال زياراتهم لمساجدها التاريخية الغريقة، مثل: السلطان أحمد والفاتح والسليمانية يجعلك تمتلأ حيوية حضارية، لتقول لهؤلاء الغربيين: انظروا "أولئك آبائي". استانبول: مركز البعث الحضاري في تظاهرة سياسية وثقافية انعقد في تركيا المؤتمر الأول لمنتدى استانبول الدولي تحت عنوان "العدالة في قفص الاتهام"، وذلك بتاريخ 13-14 أكتوبر 2012، وقد شارك في فعاليات المنتدى أكثر من مئة شخصية سياسية وأكاديمية ورجال أعمال وإعلاميين وممثلين عن منظمات المجتمع المدني من دول عربية وإسلامية وكذلك من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي . افتتح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اللقاء بكلمة انتقد فيها الأمم المتحدة؛ باعتبارها الهيئة التي يناط بها تحقيق الأمن والسلام الدوليين، ولكنها وبسبب تسلط الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن غاب العدل وطغى الظلم والذي لا تغييب مشاهده فيما يحصل في سوريا وفلسطين، حيث تدفع شعوب هذين البلدين أثمان التنافس الكريه وصراع المصالح الذي تمارسه الدول الكبرى. وبعد الافتتاح، توزع النشاط إلى ثلاثين حلقة نقاش، تناولت مختلف جوانب القضايا السياسية والدينية والإعلامية والحقوقية.. وقد كانت مداخلتي في جلسة بعنوان "الدين والتعددية"، تحدثت فيها عن التعددية الدينية في فلسطين واسقاطاتها السياسية. إن حجم الحضور ونوعية المشاركين في المنتدى منحه زخماً مميزاً على مستوى الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد، وأعطى لاستانبول مكانة مرموقة تطاول العواصم التاريخية كالأندلس والقاهرة وبغداد. إن استانبول اليوم هي - بحق - محطة إشعاع متقدمة لملتقيات الحوار الحضاري والتنوير الإنساني. تركيا: ذكريات لا تنسى لقد تعرفت على تركيا أول مرة عام 1970، عندما ذهبت للدراسة هناك، وكانت محطتي الأولى هي استانبول، حيث تجولت لمدة أسبوع كامل في أحيائها المجاورة لشاطئ بحر مرمرة، مثل: الأسكودار وآمنون، وبعدها سافرت إلى العاصمة أنقرا، وأقمت في السكن الجامعي في حي "يوكارا أيرنجي"، واستمرت إقامتي هناك لمدة ستة أشهر لتعلم اللغة التركية في جامعة أنقرة بمنطقة "الجبجي". عدت إلى قطاع غزة بعد الانتهاء من مرحلة تعلم اللغة التركية، حيث لم أوفق في الحصول على ما كنت أطمح بالوصول إليه؛ وهو القبول في كلية الطب أو الهندسة. ذهبت إلى مصر، ومن هناك سافرت للعمل في دولة الإمارات، وبعدها كانت قبلتي التعليمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أنهيت دراسة الماجستير والدكتوراه. في عام 1998 جاءتني دعوة من السيد نجم الدين أربكان لزيارة تركيا، وكنت قد سبق لي اللقاء به في واشنطن في أوائل التسعينيات، ثم تكررت اللقاءات بعد ذلك، حتى غدت استانبول بالنسبة لي عاصمة الفكر والثقافة، وصار شد الرحال إليها للمشاركة في المؤتمرات الدولية وملتقيات الحوار الفلسطيني وفعاليات التضامن مع القدس وفلسطين - قضية الأمة المركزية - لا تتوقف، فكانت أمتعتنا دائماً مسرجة، لأن استانبول بمشكاتها السياسية والحضارية غدت "مرابط خيلنا". خلال العامين المنصرمين زرت استانبول ست مرات للمشاركة في فعاليات دينية وسياسية وفكرية، وشعرت فعلاً أن تركيا أردوغان جديرة بأن تأخذ مكان القيادة في إدارة شأن أمتنا العربية والإسلامية، فكل ما فيها من حركة عمرانية بمقاييس حضارية وما تمثله مواقف زعمائها السياسيين تجاه قضايا المنطقة، وخاصة القضية الفلسطينية ثم الحراك الشعبي الذي بسط أجنحة صحوته على تونس وليبيا ومصر واليمن فكان التغيير والإصلاح وما تزال سوريا على طريق من سبقها من ربيع عربي تناضل وتدفع الثمن غالياً من دماء أبنائها ومعالمها التراثية. حزب العدالة والتنمية: مواقف وسياسات أولاً) القضية الفلسطينيةإن الموقف التركي من القضية الفلسطينية له أبعاد تاريخية ودينية وأخلاقية وسياسية.. فمن المعروف، أن الأتراك وبغض النظر عن موقفهم من العرب عموماً بسبب ما وقع خلال الحرب العالمية الأولى، وما تمّ النظر إليه في تركيا على أنه "خيانة" لهم، إلا أن الأتراك ينظرون إلى الفلسطينيين بشكل مختلف، فهناك ارتباط بفلسطين وبالمسجد الأقصى، وهناك أملاك لتركيا العثمانية منذ مئات السنين في مدينة القدس. وقد لا حظنا أن الأتراك يحملون نظرة فيها الكثير من المحبة والاحترام للفلسطينيين، وقد وقفوا معنا في دعم انتفاضتنا، وأيضاً قاموا بالتنديد بالحرب الإسرائيلية على غزة، وتحركوا بشكل واسع - إقليمياً ودولياً - لوقفها، وجاءوا بالمساعدات الإنسانية إبّان الحرب وبعدها، كما قاموا ببناء وحدات سكنية لإغاثة من تهدمت بيوتهم، وتعهدوا بالعديد من المشاريع الكبيرة لدعم الجامعات والبلديات، وما تزال بصماتهم هي الأظهر في قطاع غزة. لاشك أن القضية الفلسطينية كانت دائماً هي الرافعة للقوى السياسية في المنطقة، فالذي جعل الرئيس عبدالناصر زعيماً للأمة هي تلك المواقف التي تبناها لتحرير فلسطين، مما أعطى لمصر زخماً إقليمياً، وشهرة على مستوى العالم العربي والإسلامي، وكذلك في قيادة القوى والتيارات القومية في مختلف الساحات السياسية والفكرية في بلادنا العربية. إن تركيا تعلم ان فلسطين هي قضية العرب والمسلمين، ومكانتها تعشعش في قلوب شعوب الأمة وتسكن ضميرها، وأن الذي يحمل "الهمّ الفلسطيني" يتقدم في المكانة والقيادة. إن الشعب التركي لا يقل حباً للشعب الفلسطيني عن أي شعب عربي آخر، ولذلك فإن مواقف الحكومة التركية - وخاصة العدالة والتنمية - تراعي هذا الارتباط الوثيق بين شعبها وبين الشعب الفلسطيني، فتظهر مواقفها دائماً مؤيدة لهم ومساندة لمظلوميتهم. إن مواقف وسياسات السيد أردوغان تنسجم تماماً مع روح ورغبات الشعب التركي الذي يتطلع للعب دور في التضامن مع الشعب الفلسطيني والدفاع عنه.. لاشك بأن الشعب الفلسطيني هو المدخل للانفتاح التركي على المنطقة؛ اقتصادياً وسياسياً، وأنا أعتقد أن هذا فيه الكثير من الحكمة والذكاء وليس فيه ما يعيب، في ظل حالة الترهل والفراغ القيادي القائم بالمنطقة. إن تركيا – في نظر شعوب الأمة - ليست دولة استعمارية، بل هي دولة إسلامية لها تاريخ عريق بالمنطقة، وهي تقدم عروضاً أفضل لتنمية وتطوير اقتصاديات دول المنطقة، ولذلك نجد هذا الانتشار الواسع للشركات الاقتصادية التركية في بلدان عربية وإسلامية، وقد نجح تكتل "الموسياد" التركي في إيجاد فضاءات هائلة له في عالمنا العربي، وتمكن من جذب الكثير من الرأسمال العربي والبترودولار الخليجي للاستثمار داخل تركيا. إن سياسة تركيا ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم والتواصل مع الإسلاميين قائم وبوتيرة متصاعدة، وخاصة بعد القطيعة التي حدثت مع إسرائيل بعد الجريمة التي اقترفتها البحرية الإسرائيلية بحق سفينة "مرمرة" في 30 مايو 2010، والتي سقط فيها تسعة شهداء أتراك وعشرات الجرحى من المتضامنين على ظهر السفينة من العرب والاتراك. لقد قطعت تركيا علاقات التنسيق الاستراتيجي الأمني مع إسرائيل، وخفضت من مستوى تمثيلها الدبلوماسي معها، ومازالت تطالب بمحاكمة من قاموا بالمجزرة وتقديمهم لمحكمة العدل الدولية.أعتقد أن تركيا أردوغان وجدت في هذه الحادثة فرصتها للتخلص من علاقاتها المحرجة مع إسرائيل، والتوجه إلى محيطها العربي الإسلامي لتتولى فيه مهام النهوض والتوجيه والقيادة، بسبب الفراغ السياسي الموجود في منطقة الشرق الأوسط بعد تأخر دور مصر والسعودية، وصعوبة تقبل إيران الشيعية قائداً في الفضاء السني لهذه المنطقة. لقد غابت القضية الفلسطينية من أجندة تركيا الكمالية، وكما هو معلوم كانت تركيا أتاتورك أول بلد من العالم الإسلامي يعترف بهذا الكيان الغاصب عام 1949م. إن الحركة الإسلامية في تركيا والتي أسسها السيد نجم الدين أربكان عام 1969 باسم "مللي قوروش"؛ أي الرأي الوطني، كانت هي البداية لوضع المشهد الفلسطيني داخل أدبيات الإسلاميين في تركيا، وتطور هذا الاهتمام مع حالة التمكين السياسي للحركة، والذي ظهرت تجلياته مع ما نراه اليوم من مواقف وسياسات لحزب العدالة والتنمية (AK Party). ثانياً) الشراكة مع مصر في تعزيز المصالحة الفلسطينيةإن تركيا أردوغان تعلم أن المسجد الأقصى هو القبلة السياسية للأمتين العربية والإسلامية، ولذلك ستظل البوصلة لسياساتها تجاه المنطقة مرتبطة بفلسطين. من هنا، نجد أن تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية ستحافظ على علاقات قوية مع الفلسطينيين، وستعمل على تقديم الدعم الذي يعزز من صمودهم في وجه الاحتلال، لذلك فهي ترعى الكثير من المشاريع التنموية والإغاثية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما تبذل جهودها مع الرئيس محمود عباس والأخ خالد مشعل لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الفلسطينية. إن تركيا أردوغان أصبحت بالنسبة للفلسطينيين هي طوق النجاة والأمل المرتجى، وهي تشكل مع مصر عنصر القوة لثبات الفلسطينيين على أرضهم، والدولة التي لديها إمكانيات التأثير في السياسة الدولية لصالح القضية الفلسطينية. أعتقد أن تركيا سوف تنجح مع مصر في تحقيق المصالحة بين الفلسطينيين، وسوف تكون هي محور الارتكاز والمحطة الأهم للرأي والمشورة بالنسبة للسلطة الوطنية ولحركة حماس، وهذا لن يقلل – بأي حال - من مكانة مصر ودورها في ظل قيادتها الجديدة. إن المستقبل يرسم ملامح علاقة استراتيجية مع تركيا سوف تتعزز أكثر مع استقرار الحالة الأمنية والاقتصادية في مصر، وسوف تكون تركيا أردوغان مع مصر مرسي من يرسم ملامح المرحلة القادمة في اتجاه حل الصراع سياسياً مع إسرائيل أو تأجيجه عسكرياً معها. ثالثاً) الرؤية الإسلامية: تدرج في الخطوات أعتقد أن السيد أردوغان قد صاغ سياسات الحزب بما يتوافق مع طبيعة الشعب التركي، حيث إن مكانة الدولة تتقدم - ربما – بخطوة أو شبر عن الدين.. إن التركي يعتز بقوميته كما أنه يحترم دينه، ولكن العقود الطويلة من الحكم العلماني والاضطهاد للدين ومؤسساته قد نشأ معها جيل يشعر بقوميته أكثر من دينه.. لذلك، فإن العودة إلى روح تركيا العثمانية – الإسلامية يحتاج إلى بعض الوقت. من هنا، كانت أفكار حزب العدالة والتنمية تعتمد سياسة التدرج في الخطوات لاستعادة الدين مكانته في حياة الناس. إن المدخل الذي اعتمده الحزب بالتركيز على تعميق نهج الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هو الذي فتح الباب واسعاً لقبول الشعب التركي لأفكار الحزب وتوجهاته السياسية.. كما أن الذي خدم الإصلاحات التي قام الحزب بها هو الازدهار الاقتصادي وتحسن الأوضاع المعيشية بشكل ملحوظ، وهذا ما لأعطى دفعة قوية للحزب وقادته لإجراء تغييرات لصالح التوجهات الإسلامية في الحياة المجتمعية، حيث تم رفع الحظر عن الحجاب في الجامعات، وغدت السلوكيات الإسلامية تبدو أكثر تقبلاً حتى من جهة العلمانيين، في ظل واقع منح الجميع حرية الاختيار واحترام خيارات الآخرين. اليوم، تركيا أردوغان تمضي في أسلمة الحياة المجتمعية والرسمية والإعلامية والقضائية ولكن بذكاء وهدوء لا يثير أحد. فيما يتعلق بسياسات تركيا الإقليمية، أعتقد أن حزب العدالة والتنمية يتحرك باتجاه عودة تركيا لدورها القيادي بالمنطقة، وهي ليست أداة في يد أحد، بل فرضت حضورها المشهود في السياسة الدولية؛ لأنها الأقدر على التواصل مع حكومات وشعوب المنطقة، وهي الآن تعتبر عند الغربيين حّلال للكثير من مشاكلها، وهذا ما أثبتته الصحوة العربية أو الربيع العربي، والذي وجد في تركيا أردوغان خير داعمٍ ونصير. إن الغرب ينظر إلى تركيا باعتبارها اليوم القيادة المتميزة في منطقة الشرق الأوسط، والتي يمكنها تحقيق التوازن وتحجيم الدور الإيراني، الذي يتخوف منه البعض ويرى فيه تطلعاً للتفرد والهيمنة الفكرية والسياسية والأمنية فيها. رابعاً) تركيا وإيران: صراع على المنطقة أم تكامل؟إن لكل من تركيا وإيران مصالح استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، ربما تبدو المصالح الاقتصادية عند البعض هي المحرك الفاعل لكل سياسات تركيا بالمنطقة، وأن الايدلوجيا هي الباعث خلف الحراك الإيراني فيها.. ولكني أعتقد أن لكل من تركيا وإيران دوافع أخرى في علاقتها بالمنطقة، حيث إن عوامل التاريخ والجغرافيا والدين قد أوجدت ارتباطات لا يمكن أن تغيب عن حسابات الطرفين. ففي حسابات المصالح، وفي حسابات الأخلاق، هناك ما يجعل كل من الدولتين معنية بالنظر للفضاء العربي على أنه امتداد طبيعي لهما، وسند وحليف يجب ضمانه والحفاظ عليه. لاشك أن الربيع العربي أو الصحوة العربية الحديثة سوف تعيد التوازن في الخريطة الجيو- استراتيجية للمنطقة، حيث إن مصر سوف تأخذ مكانتها سريعاً كقطب ثالث يوازن الثقل الايراني والتركي في المنطقة، وسوف يشكل هذا الثلاثي تحالفاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً يعيد للمنطقة هيبتها السياسية بين الأمم. ختاماً: الأتراك قادمونفي تقييم واقع المشاهدة والحال اليوم، نجد أن تركيا أردوغان أصبحت جزءاً من الخريطة السياسية والاقتصادية والوجدانية للمنطقة، بل هي فاعلٌ لا يُشق له غبار في مجريات أحداثها؛ فالانشغال التركي في الملف السوري على مستوى دعم الثورة، والوقوف إلى جانب المعارضة والدفاع عنها سياسياً، وتقديم كافة أشكال المساعدات اللوجستية والإغاثية يتقدم على كل الجهود العربية والإسلامية والدولية. وإذا نظرنا إلى الصومال وجدنا أن تركيا أردوغان بادرت بتقديم يد العون لمساعدة الشعب والحكومة، كما أنها تعمل بكفاءة عالية لوضع حدٍّ للصراع الدامي بين أبناء الوطن الواحد، بهدف استعادة الهدوء والاستقرار لمنطقة القرن الأفريقي ذات القيمة الاستراتيجية لخطوط الملاحة الدولية. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإن تركيا تبذل جهودها مع الرئيس أبو مازن والإخوة في حركة حماس لإنهاء الانقسام وتوحيد الموقف الفلسطيني، فلا يكاد يمضي شهر دون اللقاء بأحدهما، لجسر هوة الخلاف وتقريب وجهة النظر بينهما، بأمل التعجيل بالمصالحة وسد باب الذرائع أمام إسرائيل، والتي تتخذ من الانقسام مدخلاً للتهرب من التزاماتها الدولية تجاه الفلسطينيين. لقد تشرفت بمعرفة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، واستمعت لما يقوله خلال أكثر من مرة التقيته في واشنطن وأنقرة واستانبول؛ فالرجل يتمتع بشخصية كاريزمية وإنسانية فذة، وقد أوتي - فيما يتحدث به - جوامع الكلم وفصيح البيان، وهو يستحق - بجدارة - أن توسد له القيادة، للأخذ بخطام هذه الأمة، والسير بها إلى حيث يجب أن تكون؛ خير أمة أخرجت للناس. إن الأتراك قادمون؛ وبصمات حضورهم ملحوظة، كما أن وقع أقدامهم مسموعة، وتعبر عنها مشاريعهم وأعلامهم التي تغطي الكثير من الساحات والميادين في العالمين العربي والإسلامي، وبترحيبٍ لافتٍ للنظر وخاصة في قطاع غزة وبعض مدن الضفة الغربية.