خبر : أزمة فيلم أم أزمة عقل؟ ..صلاح سالم

الثلاثاء 25 سبتمبر 2012 03:25 م / بتوقيت القدس +2GMT
أزمة فيلم أم أزمة عقل؟ ..صلاح سالم



يكشف الإصرار المسيحي الغربي علي إهانة الرسول الكريم‏,,‏ كما تجلي في فيلم ‏(‏براءة المسلمين‏),‏ عن بعد ثقافي ـ نفسي مركب‏,‏ فمن ناحية ثمة غيرة عميقة من نجاحه‏,‏ في تبليغ الإسلام وتفجير طاقته الحضارية‏.‏التي سادت العالم لأربعة قرون متصلة تم فيها حصار الغرب المسيحي وحبسه داخل جغرافيته فيما لا يمكن أن يسقط من ذاكرته. وثمة من ناحية أخري قياس خاطئ لنبوة محمد صلي الله عليه وسلم, التي جاءت إنسانية خالصة, إلي نبوة المسيح مزدوجة الطبيعة: إنسانية ـ إلهية, حسب قانون الإيمان( النيقاوي) الذي أسس منذ عام 325 م للعقيدة الكاثوليكية. ومن ثم اعتقد مسيحيوا الغرب أن كل تباين بينهما ليس إلا ثغرة أو نقصا في نبوة محمد, يبرر ادعاءهم بأنها زائفة, بمعني أن نبوة محمد صلي الله عليه وسلم إما أن تأتي علي منوال نبوة المسيح, وإما تكون كاذبة. ما يعيبه المسيحيون إذن علي الإسلام هو بالضبط ميزاته الأساسية التي جعلت منه صالحا ليكون الشريعة الخاتمة للدين التوحيدي, هذا اعتقادي واعتقاد كل مسلم, الذي يخالف بلا شك اعتقاد المسيحيين. وهنا لا مشكلة مبدئية, فالأديان لا تنتمي إلي عالم العقل المحض بل تعلوه, والإيمان لا يكون في أغلب الأحيان استدلالا من مقدمات لنتائج, ولا استقراء لحقائق من وقائع, بل هو إلهام يأتي من داخل ومن بعيد, من عالم الروح الجواني, ليسيطر علي إدراكنا الباطني, فلا سبيل إلي قمعه أو التحكم به, فليؤمن كل إنسان بما شاء مادام إيمانه قادرا علي إلهامه, وحفزه نحو أخلاقية انسانية صحيحة, بينما تبدأ المشكلة جوهريا مع محاكمة العقائد, وازدرائها.وهكذا كان الرد العقلاني علي الفيلم المسيء يتمثل في توجيه رسالة شاملة عبر منابرنا الثقافية والإعلامية وقنواتنا الدبلوماسية إلي العقل الغربي عموما, والأمريكي خصوصا, تؤكد حجم الإساءة التي شعر بها المسلمون جميعا إزاء العدوان علي عقيدتهم, ثم المطالبة, ليس فقط باعتذار يعد من نافلة القول, بل بالتوجه فورا نحو صياغة قانون يحمي الأديان من خطر الازدراء عبر حوار تضطلع به منظمة المؤتمر الإسلامي والأزهر الشريف مع اتحاد الكنائس الأمريكية والفاتيكان, وممثلي جميع المذاهب والأديان في العالم, استنادا إلي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تصون مواثيقه حرية الاعتقاد وتجعلها صنوا لحرية التعبير, فليست العقيدة الإسلامية بمطلقها الإلهي المتعالي, ولا حتي الديانات غير السماوية, أقل قداسة من واقعة الهولوكوست بنسبيتها الإنسانية والتاريخية, والتي جري تقديس وتجريم مساءلتها.أما ردود الأفعال المنفلتة التي نعيشها فقد أساءت إلي الرسول, والإسلام بأكثر مما فعل الفيلم,إذ تبدت كرصاصة طائشة أصابتنا أنفسنا.. لقد أرادها صانعوه فتحقق لهم ما حلموا به: عنف وتخريب أمام السفارة الأمريكية بالقاهرة, وقتل للسفير الأمريكي ومساعديه بليبيا, واقتحام سفارات أمريكا مع وقوع قتلي بتونس والسودان والعراق.. إساءة للغير وإفناء للذات, ترهيب رعايا دولة لم ترتكب خطأ حقيقيا, وتقتيل أنفسنا بأنفسنا, بينما المجرم الحقيقي يقبع في مواقعه آمنا.كانت أزمتنا مجرد فيلم (براءة المسلمين) قام به الأعداء, لم تعرضه دار عرض واحدة, ولا قيمة فنية حقيقية له, فإذا بنا أمام عشرة أفلام قاتلة يقوم بها الأصدقاء, تعرض حية علي القاصي والداني في أربع أنحاء الأرض, وإذا المباراة تنتهي بهزيمتنا حضاريا وثقافيا وإنسانيا (11 ـ0), منها هدف واحد بقدم المنافس والعشرة الباقية بنيران صديقة.تلك الهزيمة الثقافية ما كان لها أن تقع إلا لأنها قد دارت بين عقليتين متباينتين كيفيا, أولاهما حققت شروط العقلانية, والثانية لم تحقق هذا الشرط بعد. الأولي تجسد مفهوم (العقل) الحائز لملكتي (الفكر) و(الوعي), بينما الثانية تجسد مفهوم (الذهن) المقصور علي مجموعة الأفعال الشرطية (البيولوجية) التي تلبي ضرورات الحياة العملية لدي الإنسان البدائي, وكذلك الحيوان الراقي.يتركب هذا الذهن علي( المخ) كمادة خام تمثل الشرط المبدئي, ولكن غير الكافي لانبثاق العقل,الذي ينطوي علي الذهن ولكن يتجاوزه, يمر به من دون أن يتوقف عنده, ولذا كان قادرا علي استبطان المعاني والخيالات والرموز, فيما يقف الذهن علي أعتاب ردود الأفعال البسيطة والانعكاسية, لا يرهق نفسه في استقصاء النتائج من مقدماتها, ولا يربط العلة بمعلولاتها, علي منوال ما قام به جمهور المسلمين المعتدين علي السفارات الأمريكية, فأرسلوا للعالم رسائل خاطئة من قبيل:ـ أن ديننا همجي ودموي يهاجم الأبرياء, إذن فالرسالة التي يقولها الفيلم صحيحة, قدمنا بأنفسنا دليل صدقها, فلماذا إذن كان غضبنا؟.وأننا, برفع علم القاعدة علي سفارة القاهرة, إنما نتبني نهجها القائم علي العنف العبثي والإرهاب الدموي, ولم يكن صانعو الفيلم ليحلموا بأكثر من ذلك, بغية إدخال العالم العربي ومصر في القلب منه إلي مواجهة دموية مع الولايات المتحدة, واستدعاء المسيحية الصهيونية واليمين المحافظ إلي قيادة تلك المواجهة. وهكذا نجدنا أمام حق ضائع بفعل سذاجة الذهن الذي يدافع عنه, وشر منتصر بفعل دهاء العقل الذي يمارسه. ـ الأهرام المصرية