يحدث الانقسام والتفكّك حينما لا تجد التناقضات ـ وقد تحولت إلى تعارضات جذرية ـ حلاً لها أو مخرجا آخر عبر الطرق السياسية، وذلك يكون في الغالب، بعد غياب زعيم هو نفسه بمثابة الحل الوحيد لهذه التناقضات، باعتباره رمز الإجماع القادر على صهر هذه التناقضات، في نوع من التوازن، أو التكامل الخلاق، الذي يقوم على تبادل الأدوار. وغالباً ما تترافق مع الانقسامات متلازمة الاقتتال أو الاحتراب الأهلي الداخلي، حينما يُصبح من المتعذر على كلا الطرفين إقناع الطرف الآخر والمقابل عبر الكلمات، في لحظة مأساوية من انتفاء القدرة على الحوار، ويلزم بعد ذلك، مضي وقت أو مسافة زمنية فاصلة، قبل تبريد الاحتقان والرؤوس الحامية، وقبول الأطراف مجدداً مبدَأ العودة إلى الحوار، يمارس خلالها الواقع، معاندة الحقائق الصلبة، هذه المرة، قوة الإقناع. لكن يلزم في كل مرة للوصول إلى المصالحة بعد الانقسام، مبادرات أقرب في طابعها إلى المبادرات النبوية التي تقوم على قاعدة اشتراطية لا يمكن القفز عنها، أو تجاهلها، وهي القدرة على التحلي بالشجاعة على ممارسة هذا النوع من الاعترافات المسيحية، لتنقية الذاكرة، أو ما يسمى في المسيحية "طهارة الذاكرة"، وفي المصطلحات السياسية "المراجعة"، وفي الدين الإسلامي "المغفرة" أو طلب الاستغفار. دون قيام فتح وحماس معاً، بتنقية الذاكرة، المراجعة أو الاستغفار. لا سبيل للوصول إلى المصالحة الحقيقية، إلا بتنقية الذاكرة، التي دعا إليها الزعيم نيلسون مانديلا، بين البيض والسود، فلا يمكن تأسيس المصالحة في النصوص، العقود، في حالات الاحتراب الأهلي، وحتى في حالات التخلص من الاستعمار، وإنما أولاً في القلوب، في هذا التوازن، التكامل بين نبض القلوب ونبض العقول، وبعد إحداث هذا التكامل لا يعود المتخاصمون، بحاجة إلى الاتفاقات والعقود والنصوص. الحق أقول لكم، لا يلزم لحل هذا المأزق مفكرون فلسطينيون ألمعيون، ولكننا نفتقد اليوم إلى نبي، أو جدارة قيادية تتفوق على النزاع الأهلي الداخلي، وحيث بعد غياب قائد عظيم وملهم، يستطيع أن يطفئ نار الفتنة، بحركة واحدة من يديه، فإنه يحدث غالباً أن تمر الشعوب، بهذه الحقبة الانتقالية الارتدادية، من فقدان الاتزان، وهي الحقبة التي نمر فيها الآن. كل احتراب أهلي أو انقسام، إنما يدور حول محور الشرعية، والتناقض في المصالح السياسية المباشرة، كما الرؤى والسبل، إلى تحقيق هذه المصالح المتباينة، ويلزم للنكوص، التراجع عن هذا الانقسام أو التعارض، والعودة مجدداً إلى وعاء الوحدة، بانتفاء القدرة على تحقيق هذه الرؤى بصورة وحدانية منفردة. لكن جاك بيرك المستشرق الفرنسي الشهير، هو الذي لاحظ أن هذه الحركات الوطنية السياسية طالما هي تخوض مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار تواصل الحفاظ على وحدتها، ولكن ما إن تحرز الاستقلال وتقيم سلطتها، وتتحول إلى سلطة، فإنها تبدأ في الانقسامات والانشقاقات. لكن جاك بيرك، الذي أعجب بناصر وعاش في سورية، ولبنان ردحاً من الزمن، وكتب أفضل من أي غربي مستشرق آخر، عن قضايا العرب بين "الأمس واليوم" في فترة نزع الاستعمار، لم يعش لكي يشهد النموذج الفلسطيني، المخالف للقاعدة، إن شاء السلطة، ما قبل نزع الاحتلال، وتحت الاحتلال. هل كانت متلازمة الانتقال إلى تحقيق السلطة والانقسام ما قبل عملية نزع الاحتلال، هي استثناء نموذجنا، كمعضلة، مأساة مركبة، تضفي على شقائنا هذا الشقاء المزدوج؟ لم يحتربوا وينقسموا إلا بعد أن أصبح الكل جزءاً من السلطة وعلى السلطة؟ فطالما لم تكن حماس بعد في السلطة، وما زالت زاهدة في التنافس على السلطة، من قلب السلطة، سائرة في خدرها العذري، فإن حماس لم تكن مشكلة جدية في الصراع على السلطة. ولقد عمل كلا الرجلين عرفات وأبو مازن فيما بعد كل منهما بطريقته، لاحتواء ما يمكن اعتباره انحراف حماس السياسي، في مشاغبتها على إستراتيجياتهما من خارج السلطة. وقد سعى عرفات الأريب والداهية، بادئ الأمر إلى تفكيك حماس، كمجموعات منشقة، تدور في فلكه، يناور على طريقته حين تحين لحظة فشل المفاوضات، بسيوفها، وهو ما لم ينجح فيه عرفات تماماً. إذ رغم الانشقاقات التي حدثت في الحركة بل وتحول جزء منها إلى حزب سياسي، هو حزب الخلاص الإسلامي، تحت ضغط مناوراته، إلا أن الحركة حافظت على تماسك جسمها الرئيس من الناحية الفعلية. ولكنه سوف ينجح بعد وقت قصير، في أن يضبط إيقاعها، على وقع إستراتيجيته. وحين ستلوح الفرصة، للذهاب إلى قلب الطاولة والحرب، تمكن من أن يقاتل بسيفها، عمليات حماس الاستشهادية إلى جانب الجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى. وأظن اليوم أنه ما كان لعرفات، في مطلق الأحوال والظروف أن يقدم على أي مبادرات من شأنها أن تجعل من حماس منافساً لسلطته، من قلب السلطة. ولكن بخلاف عرفات، أبو مازن لم يكن يرغب أو يهتم لا بتفكيك حماس إلى دكاكين، ولا المناورة بسيوفها، وإنما إعادة تأهيلها سياسياً وإدخالها بيت الشرعية، اللعبة السياسية الداخلية، على أمل احتوائها، إقناعها بإبقاء السيف في غمده. فبخلاف عرفات آمن أبو مازن بأن السلام والمفاوضة يجب أن يدارا بنوايا حسنة، وبقدر من الاستقامة السياسية، والشفافية. ولذا لم يشأ أن يجعل من حماس ثغرة داخلية، تعطّل إستراتيجيته التفاوضية، أو السلمية أحادية الجانب. لكن وكما يحدث في المآسي التاريخية فإن (هيرا) إلهة الشر والانتقام، كانت تتسلل خفية لتضع على الطاولة تفاحة الشر. واليوم نسأل من الذي عمل على تقويض خطة الرجل؟ وحيث بدا في هذا الحين أن حماس وأبو مازن يمكن أن يعقدا شراكة ناجحة، بعد دخول حماس الانتخابات فعلياً، لإعادة تأسيس الوحدة الفلسطينية، على مداميك جديدة بعد غياب عرفات، ولسد الفراغ، الثغرة الكبرى والنوعية التي خلفها غياب عرفات. من الذي أفسد اللعبة عند هذه اللحظة وقبل أن تبدأ؟ هذا السؤال الرئيس الذي يستدعي اليوم، مواجهته، إجابته، كنوع من ممارسة تنقية الذاكرة، والذي دون إجابته، سوف تظل المصالحة معطلة، وهذا يعني أننا من دون الاتفاق أنه يجب البدء أولاً بالاتفاق على الرواية وتنقية هذه الرواية. رواية الانقسام نفسها. في السؤال المسكوت عنه، حتى الآن. كيف تحول المسعى، مسعى أبو مازن لإدخال حماس الشرعية، اللعبة السياسية الداخلية، إلى كمين أو لغم سياسي انفجر فينا جميعاً ولا يزال يلقي بشظاياه علينا. من هذه النقطة، يجب أن تبدأ تنقية الذاكرة. ولكن من أسئلة متممة ولاحقة: لماذا لم يجد التعارض حلاً وحيداً له، سوى الخيار المر، أي الاقتتال الداخلي، الذي تسميه حماس الحسم العسكري، وتسميه فتح الانقلاب؟ ومن هم اللاعبون الفاعلون الحقيقيون، من وراء الستارة الذين مارسوا تأثيراً خطيراً في دفع الأمور إلى هذه النهاية؟. ولماذا تفشل اليوم كل محاولات ومساعي الرجل بعد أن أعلن هو نفسه، على رؤوس الأشهاد موت إستراتيجية التفاوض، في أن يجد استجابة من حماس، لملاقاته عند منتصف الطريق؟ فهل تجذر الانقسام وقد وجد له تأطيراً سلطوياً بانقسام الفلسطينيين إلى سلطتين، بحيث بات متعذراً إقامة الوحدة بينهما كما تعذر استعادة إقامتها وتركيبها من جديد "الوحدة العربية"، بعد أن تجزأ العالم العربي إلى دول وكيانات مستقلة، ومنفصلة، حتى بين الحزب الأيديولوجي الواحد الحاكم نفسه، في كل من سورية والعراق، حزب البعث العربي نموذجاً؟ ولكن هل هذا الخيار التشاؤمي ممكن، تواصل الانقسام إذا كان ما سيرأف بنا ويرحمنا، هو أن كلا السلطتين لا يمكنهما المضي من هنا، إدامة الانقسام الحالي، حتى لأجل الحفاظ على السلطات القائمة، دون الاصطدام بمهمة إنجاز نزع الاحتلال. الاحتلال الذي هو المشكلة، في الصراع الحتمي معه، هو الحل أيضاً. إن قصة الانقسام الفلسطيني الحالي هي قصة صراع رجل بالأخير قاده قدره، وأفكاره الطيبة، إلى أن يجد نفسه ضحية للصراع. ولكنه في عزلته وتخلي الجميع عنه ومأساته، يظهر كبطل تراجيدي وحقيقي يحاول أن يسدد ضربته الأخيرة، والخارقة. إلى الاعتراف بعضوية الدولة، واصل الطريق، وسوف ينصفك التاريخ وشعبك.A