الأفعال وردود الأفعال الشعبية والرسمية التي اجتاحت العالمين العربي والإسلامي، وعددا من المدن الغربية، على خلفية إنتاج فيلم "براءة المسلمين"، تجاهلت السؤال المركزي، وهو السؤال الذي يتعلق بجوهر القضية، ومسؤولية السياسة الأميركية إزاء الشعوب العربية والإسلامية، بل أن بعض التصريحات الرسمية تعمدت تبرئة الولايات المتحدة. لاشك في أن هذا الفيلم الذي يسيئ للإسلام والمسلمين، يشكل استفزازاً قوياً لمئات ملايين المسلمين، خصوصاً وأنه يأتي في إطار سلسلة من السلوكيات المماثلة التي وقعت في عدد من "بلدان الديمقراطية" الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة. الفيلم المسيئ للإسلام والمسلمين جرى إنتاجه، وعرض أجزاء منه على الشبكة العنكبوتية خلال مرحلة الربيع العربي، الذي يطفو على سطحه، وتحصد نتائجه جماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي يشكل اختباراً حقيقياً لمدى التزام الجماعة بالسياسات التي تبنتها، والشعارات التي رفعتها قبل وصولها إلى سدة الحكم في عدد من البلدان العربية. غير أن الأمر ينطوي أيضاً على اختبار حقيقي للسياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة، وجعلتها تساهم في تسهيل وصول الإخوان إلى الحكم، أو على الأقل، في الامتناع عن القيام بما يعطل وصولهم إليه. كان هذا النهج السياسي قد ظهر بوضوح حين تخلت واشنطن بسرعة عن حلفائها من الحكام السابقين، وحين تدخلت في مصر على وجه الخصوص لجهة ضبط العسكر، بما يؤدي إلى انتقال سلمي ونحو تعزيز صلاحيات الرئيس محمد مرسي لممارسة دوره بدون عقبات تذكر في إدارة شان البلاد. بالتأكيد، فإن السلوك الأميركي إزاء مجريات ومخرجات الربيع العربي، تنطوي على مراهنات جديدة، وأحصنة جديدة في المنطقة، لحماية وتوسيع مصالحها واستراتيجياتها، ولضمان أمن إسرائيل الاستراتيجي، ولهذا يبدو أن صانع القرار الأميركي، قد أصيب بصدمة نظراً لمدى عدائية الشارع المصري خصوصاً والعربي عموماً، خلال التعبير عن احتجاجه وسخطه بسبب الفيلم سيء الذكر. الحدث وقع في وقت عصيب بالنسبة للإدارة الأميركية، التي يخوض رئيسها باراك أوباما صراعاً قوياً للفوز بولاية ثانية، إذ شكلت ردود الفعل العربية والإسلامية على الفيلم حرجاً شديداً لأوباما ووفرت لخصمه مت رومني، ذخيرة إضافية لإضعاف شعبية الرئيس وحزبه الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى بعد نحو خمسة أسابيع. في المشهد، تتعرض الولايات المتحدة، لاحتجاجات شعبية ورسمية واسعة، وبعضها يتسم بالعنف، راح ضحيته في بنغازي الليبية السفير الأميركي كريس ستيفنز وثلاثة من زملائه، وتعرضت بعثاتها الدبلوماسية في أكثر من عاصمة لتهديدات حقيقية، واهتزت بعنف مكانة أميركا في العالمين العربي والإسلامي. وعلى الرغم من إدانة الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته للفيلم ومنتجه، ومخرجه، واستدعائهما للتحقيق من قبل الشرطة في ولاية كاليفورنيا، إلا أن ذلك لم يؤد إلى تحويل أنظار المحتجين والساخطين، نحو المنتج والمخرج، بل ظلت وجهتها أميركا بقضها وقضيضها. ربما لغياب المفاهيم والتقاليد الديمقراطية، فإن الجماهير الغاضبة لا تستوعب أن آليات الديمقراطية الغربية، وغياب الرقابة، هي المسؤولة عن إقدام شخص أو مؤسسة على أعمال تسيء للديانات السماوية، وتحرض على العرب والمسلمين، لكن ربما أيضاً أن هذه الجماهير ليست معنية بتجاوز مثل هذه السلوكيات المسيئة، بقدر ما أنها معنية وتعبر في الجوهر عن عدائها الشديد لسياسات الولايات المتحدة، التي تنطوي على ظلم شديد إزاء الشعوب الأخرى، بما في ذلك دعمها القوي للعدوانية الإسرائيلية. الفيلم إذاً هو مجرد "قميص عثمان" بالنسبة للملايين التي خرجت إلى الشوارع، للتعبير عن غضبها على السياسة الأميركية، التي تخطئ إن اعتقدت أن عبارات التنصل من المسؤولية وإدانة الفاعل أو اتخاذ إجراءات بحقه يمكن أن تُبيِّض قلوب مئات ملايين البشر المتضررين كل الوقت من السياسية الأميركية. الرئيس أوباما، الذي تستحوذ عليه، فرصة الفوز في الانتخابات، عينه على الداخل الأميركي، أكثر مما هي على الخارج، ولذلك جاءت أقواله وأفعاله لاستثمار الأوضاع المتوترة خارجياً، لتعزز شعبيته داخلياً، وإفقاد منافسه رومني، الذخيرة التي اعتقد أنها توفرت لديه للنيل من منافسه الديمقراطي. سياسياً أومأ أوباما إلى الحاكم الجديد في مصر، باعتبارها مركز الاهتمام أكثر من سواها، بأن العلاقات الأميركية- المصرية على المحك الصعب، فقال إن مصر ليست دولة حليفة ولا هي دولة عدوة، الأمر الذي ينطوي على وضع مصر أمام خيار، إما أن تكون حليفة فتؤكد بالملموس ذلك، وإما أن عليها أن تكون هدفاً لما يمكن أن تقوم به أميركا، وما يمكن أن تقوم به صعب بل خطير. الإخوان في مصر استوعبوا الرسالة سريعاً، فأبقوا على الحد الأدنى من مظاهر الاحتجاج وسحبوا دعوتهم للمشاركة في مليونية كانوا قد دعوا إليها يوم الجمعة المنصرمة. والأرجح أن الإخوان الذين آثروا بوضوح الخيار الأول، بإظهار حرصهم على العلاقة مع الولايات المتحدة، سيكون عليهم أن يؤكدوا ذلك بالمزيد من الممارسات والإشارات الإيجابية التي ترضي واشنطن؟ من ناحية أخرى، شكل الحدث برمته، فرصة للولايات المتحدة لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، إذ توجهت إلى سواحل ليبيا، مدمرتين أميركيتين، وجرى إرسال مجموعات من المارينز إلى ليبيا، واليمن بحجة ضعف قدرة السلطات على تأمين الحماية للدبلوماسيين والرعايا الأميركيين في بلدانها. ليس من المحتمل أن يكون وجود المدمرتين على السواحل الليبية مؤشراً لتدخل عسكري واسع، لكن الأميركيين بصدد القيام بمهمات أمنية وربما عسكرية لملاحقة أنصار القذافي، وجماعات القاعدة المتهمين بقتل السفير وزملائه، أما في اليمن فلتعزيز الدور الأميركي العسكري والأمني القائم عملياً بذريعة تعقب جماعات القاعدة، الناشطة بقوة هناك. ما لم تفعله ومن غير المرجح أن تفعله الإدارة الأميركية لمعالجة السبب الحقيقي للأحداث هو مراجعة سياساتها وعلاقاتها بدول وشعوب المنطقة، ولذلك فإن الاحتجاجات الشعبية قد تثور مرةً أخرى ومرات، لأسباب كثيرة لا تعدمها الولايات المتحدة.