إذا كان لنا أن نختزل الصراع العالمي، الدائر اليوم، لتقرير مصير توازن القوى على مستوى الكون، وبالتالي تقرير شكل النظام العالمي الجديد، فإن هذا الصراع بات يتقرر ويحسم بنتيجة الحرب الدائرة منذ أيام بين "جبل محسن" و"باب التبانة" الشارع الخلفي للحرب الأهلية في لبنان، الحرب الأهلية في لبنان التي تطل بقرنيها اليوم على بلاد الأرز مرةً أخرى، وكأن كل عناصر وقود الحرب قد تضافرت في بيت النار، وإن على قدر من الوجل أو الحياء حتى الآن. يفصل بين جبل محسن العلوي، وباب التبانة السني في طرابلس (شمال لبنان)، شارع وحيد، ويا للمفارقة، فاسم هذا الشارع (سورية). وتقول الرواية، إن أولاداً صغاراً كانوا يلهون بألعاب نارية في يوم العيد، هم الشرارة التي فجرت الأحداث الدامية التي تحولت إلى حرب متبادلة، أودت بنحو مائة قتيل وجريح، ولم تتوقف حتى كتابة هذه السطور. إن الأزمة السورية، تلقي بشبحها على لبنان، لبنان الأكثر هشاشةً في مناعته مِن أن ينأى بنفسه، ولا يتأثر بالصراع الجاري على سورية منذ سنة ونصف السنة حتى اليوم. ويبدو في المشهد كما لو أن جبل محسن يمثل في هذه الحرب المصغرة، مجمل التحالف السوري مع حزب الله، وإيران وروسيا وصولاً إلى الصين. فيما يصطف خلف المتراس المقابل في باب التبانة، مجموع المجرة المقابلة، من التحالف الذي يضم المجموعات المسلحة المناوئة لنظام الحكم في سورية: تركيا وأميركا، وأوروبا وصولاً إلى قطر والسعودية، وتيار المستقبل اللبناني، وحلفائه المحليين، في إطار ما يسمى معسكر 14 آذار. في التحليل، ثمة فرضيتان في المقلب الأول والمقلب الآخر: الفرضية الأولى ـ إن إيقاظ الصراع الراقد منذ سنين، في المدينة، إنما يتم الآن، بتحريك من النظام في سورية لتخفيف الضغط عليه، عبر إشعال المدينة، لتوجيه جهد المسلحين بدلاً من التسلل إلى سورية، وإغراقهم وإشغالهم في المدينة نفسها، التي يعدها خصوم سورية لتكون قاعدة إمداد لوجستية، لتهريب السلاح والمسلحين إلى سورية، أو حتى كإشارة من قبل النظام، بتوسيع دائرة الأزمة، والاشتباك خارج حدود سورية. الفرضية الثانية ـ إن ما يحدث هو رد فعل حلفاء الشر (أميركا ومن معها)، لنقل الصراع إلى لبنان، بهدف تحقيق مكاسب في الزواريب اللبنانية، بعد النجاحات الملحوظة التي حققها النظام في دحر المسلحين في حلب والمدن السورية الأخرى. وبالتالي فان ما يحدث هو من قبيل التغطية على هذا الفشل الذي يواجهه التحالف المعادي للنظام السوري في إقامة منطقة عازلة داخل سورية وتحويل هذا الفشل إلى نجاح في إقامة هذه المنطقة في شمال لبنان. وبالتالي فإن ما يحدث في مدينة طرابلس، إنما هو مصالح مشتركة بين أميركا والقاعدة، لتمكين تنظيم القاعدة من تحقيق اختراق إستراتيجي له في لبنان. ولخلط الأوراق من وجهة مصالح الأميركيين في مواجهة حزب الله. إذا كان الجميع بالنهاية، جميع اللاعبين على اختلاف مصالحهم وأهدافهم، تعاملوا تاريخياً مع لبنان على أنه ساحة لتصفية الحسابات، ويجري اليوم نقل الأزمة السورية إلى لبنان لتحقيق الهدف نفسه، تعويض ما عجزوا عن تحقيقه في سورية. هل نستطيع أن نفسر في هذا السياق الرابط، بين تفجر الأحداث في طرابلس وتصريحين أميركيين لافتين، الأول للرئيس باراك أوباما عن التدخل العسكري، والثاني لمهندس الأزمة اللبنانية والسورية، جيفري فالتمان، بالدعوة إلى تأمين غطاء دولي للبنان. ويمكن أن تضيف إليهما العقوبات الجديدة ضد حزب الله، وتصريحات حسن نصر الله الأخيرة عن معادلة الردع الجديدة، التهديد بقصف الصناعات البيوكيماوية في إسرائيل، والحديث عن عشرات آلاف القتلى في الطرف الإسرائيلي. وكل ذلك في وقت متزامن وكأننا بإزاء لحظة ما قبل الانفجار، الحريق الكبير. حول تصريحات الرئيس أوباما أيضا، ثمة فرضيتان: الفرضية الأولى ـ إن الرجل فعلاً يرى أنها اللحظة المواتية لنضج اتخاذ القرار بالتدخل العسكري، وذلك اعتقاداً بأن سنة ونصف السنة، من استنزاف الجيش السوري، قد أنهكت هذا الجيش الذي بحسب التقديرات ليس كالجيش العراقي ولا الليبي، وبالتالي فإنه قد يمكن الآن الدخول في المغامرة المحسوبة، وإعداد المسرح حتى شهر تشرين الثاني المقبل، إلى ما بعد الانتخابات الأميركية أو ربما قبلها، إذا كان أوباما يحتاج في الانتخابات، إلى رأس كبيرة يقدمها للأميركيين، كرأس بشار الأسد. الفرضية الثانية ـ على العكس من ذلك، إن الفشل الذي ثبت حتى الآن في جميع المحاولات لإسقاط النظام السوري، والتقدير بأن خروج بشار الأسد منتصراً من هذه الأزمة، سوف يهدد مصالح بل وبقاء أميركا في المنطقة وحلفائها، إسرائيل ودول الخليج، إنما هو الذي يملي عليه اتخاذ القرار، بالتدخل العسكري، باعتبار أن آخر العلاج هو الكي. وهكذا فإن أحداث طرابلس قد تكون تمهيداً لمثل هذا التدخل، وقد تحركت بالفعل حاملات الطائرات في المتوسط لهذا الغرض. لكن التوصل إلى استنتاج مقارب للواقع المحتمل بالأخير، إنما يطرح سؤالاً حول رد فعل روسيا والصين وإيران على تدخل أميركي محتمل لإسقاط النظام السوري، فما هو رد الفعل الروسي المحتمل هنا؟ الواقع أننا قد نكون في هذا السيناريو أقرب إلى واقعة أزمة خليج الخنازير في كوبا، أوائل الستينيات بين خريتشوف وكيندي، وأزمة السويس 1956 بين روسيا وفرنسا وبريطانيا. والاحتمال ليس مرجحاً أن تنشب حرب عالمية ولكني أرجح أن روسيا، ربما منفردة أو مع الصين، سوف يصدران بياناً على صورة إنذار، بأنهما سوف يستخدمان القوة للدفاع عن سورية، والحؤول دون إسقاط النظام، على قاعدة الدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة، الذي يكفل سيادة الدول، وعدم التدخل فيها، انطلاقاً من قاعدتها البحرية في طرطوس، وبالتالي نكون هنا إزاء لعبة من يتراجع أولاً، كما في التمرين الشهير، في سباق المتنافسين، والذي يخسر فيه من يخشى الصدام ويتنحى جانباً في اللحظة الأخيرة. فهل نحن بإزاء حافة هاوية جديدة على غرار أزمة الصواريخ الروسية في خليج الخنازير، والتي تم التراجع عنها في اللحظة الأخيرة، وهددت بحرب نووية في حينها، بين الجبارين، في ذروة الحرب الباردة. في الواقع ما يحدث هو أننا في سباق مع الزمن، عشية انفجار عظيم يوشك على الحدوث، بعد أن اقتربت الأصابع من الزناد، بعد أن فشلت الدبلوماسية وقد تكون مهمة الأخضر الإبراهيمي هنا، هي لحظة الغسق، الفاصلة ولكنها أيضاً، ربما هي لحظة ظهور (مينرفا) إلهة الحكمة، كما تقول الأساطير اليونانية، فالأصابع على الزناد، نعم كما هو احتشاد الأساطيل، في المتوسط لكن من الذي يجرؤ على الضغط على الزناد؟ لحرب قد تكلف عشرات الآلاف من القتلى، كما قال حسن نصر الله، فمن يحتمل ثمن هذا الضغط؟.