شاركت شخصياً بصحبة الدكتور نبيل شعت في المراسم الاحتفالية لافتتاح معبر رفح، وكان مشهداً مؤثراً حين رفع العلم الفلسطيني على السارية، كرمز لسيادة فلسطينية، في ظاهر الحال بالطبع، لأنها كانت سيادة منقوصة، أو مشتركة، في واقع الحال على المعبر. واذكر أنني كتبت تقريراً عن هذا الحدث في صحيفة الحياة اللندنية. لكنني ومنذ ذلك اليوم الباعث على تفاؤل التاريخ، لم أخرج ولو لمرة واحدة بل لم أفكر لمجرد التفكير، بان اخرج من هذا المعبر. وكانت آخر مرة خرجت فيها ربما من ذات المكان، ولم يكن ثمة معبر في أواسط السبعينيات حينما أقلتنا طلاباً قافلة من الباصات الى نقطة حدودية، وسط صحراء سيناء، كانت عبارة عن سياج من الأسلاك الشائكة، تفصل بين القوات الاسرائيلية والمصرية، بعد اتفاقات الفصل بين القوات التي توسط فيها هنري كيسنجر. ومن خيمة كانت تضم عدداً من الضباط المصريين للتدقيق في أوراقنا، أقلتنا باصات مصرية الى القاهرة. لم أحب وقد عدت للمرة الأخيرة من المنفى أن أعود ثانية للسفر والمطارات، وفي الواقع كغيري من الفلسطينيين في مستهل العمر، وقعت منذ وطأت قدمي مصر في غرام مصر المحروسة. لكنني في عهد أنور السادات، وبعده مبارك، تعرضت للاعتقال ومن ثم الإبعاد، والواقع أن العلاقة في هذه القصة كانت متبادلة، فأنا لم أحبهما ولا هما أحبا الفلسطينيين. الأول رأى نفسه خليفة للفراعنة، وليس لناصر الذي أحبنا وأحببناه، وعقد اتفاقية كامب ديفيد منفردا مع اسرائيل، مديراً لنا ظهره. والثاني رفع شعار "مصر أولاً" وتركنا دونما الأخ الكبير، في حصار بيروت، وبعد ذلك، نقلع شوكنا بأيدينا وحدنا، وقزم وزن ودور مصر. ربما فضلت العمل بتلك الحكمة، التي تقول انه ليس ثمة شيء يعادل، العيش طوال الوقت في مكان واحد، لا نغادره، ما يضفي معنى أجمل وأعمق على الحياة. لكن على مدى كل حياة، وعمر جيلي، فان قدرنا الجماعي والشخصي كما روح المكان، لم يكن على ارتباط بشيء أكثر من الارتباط القدري بمصر. هكذا كانت مصر، هي قدرنا وعلى مدى أربعين عاما، كان الوضع الفلسطيني، يتأثر، يتأرجح سلباً أو إيجاباً، بطبيعة المزاج المصري، مزاج الحكام المتعاقبين . وفيما آثر ناصر الغزيين الذين كانوا حتى العام 1967 يتبعون إدارته في رغد الحياة حتى على المصريين، حيث كانت غزة عبارة عن سوق حرة وميناء تجاري مفتوح على البحر، لا جمارك أو ضرائب، يأتي اليها المصريون الميسورون، للتسوق من بضاعتها الأجنبية الفاخرة، والرخيصة، وكان التعليم الجامعي من دون رسوم. بل إن ناصر كان يوفر لنا نحن الطلاب السكن الداخلي، ويدفع لنا مصروف جيب لكل طالب فلسطيني، عشر جنيهات مصرية كانت قيمتها في ذلك الوقت تقارب دخل موظف بسيط. لكننا مع خلفائه، لم نشهد التراجع عن هذه الامتيازات التي كان يمنحها ناصر للفلسطينيين، وأبناء غزة على وجه التحديد، وإنما كنا شهوداً في هذه الأثناء، وبعد إقالة الرعيل الأول من رؤساء تحرير الصحف، وكبار الصحافيين، أمثال هيكل، واحمد بهاء الدين، حقبة الحملات الإعلامية الكريهة ضد الفلسطينيين، من لدن الإعلام الرسمي، أو ما يسمى الصحف القومية، بالسخرية من المقاومة الفلسطينية "الفدائيين" وما رافق ذلك المعاملة السيئة للفلسطينيين في المعابر والمطارات، وهو الخط السياسي، الذي بلغ ذروته، في السنوات الأخيرة، من ترك عرفات محاصراً ويقتل، وغزة تتعرض للقصف حتى حدود العربدة من جانب اسرئيل، وللحصار بل والمشاركة في هذا الحصار. لقد تنفسنا الصعداء مع الثورة المصرية، وقلنا وقد فرحنا وتفاءلنا خيراً حتى أننا حلمنا فيما تراءى لنا، أن طريقاً ممتداً من معبر رفح سوف يفتح يوماً ليس ببعيد، من رفح على ساحل البحر حتى تونس والمغرب العربي. بعد أن طويت حقبة سوداء امتدت أربعين عاماً. وهكذا فإن تغيراً ثورياً راديكالياً في الصراع مع اسرائيل، قد بدا الآن، وبالتالي هيّا الى المصالحة، ولم الشمل، بين "فتح" و"حماس" بعد الانقسام، فقد هبت ريحنا من جديد، وهيّا أبو مازن إلى غزة، لكي نستأنف الصراع من التقاء الجغرافيا الجديدة بالفكرة. لكن هنا عند هذه اللحظة النادرة، من إعادة المصالحة، بين الجغرافيا والفكرة، حدث ما لم يمكن توقعه، الفشل الكبير في التقاط الفرصة أو عند اللحظة الحاسمة وكان هذا الفشل استراتيجياً، يرقى الى الهزيمة، هزيمة الذات. حين تبين لنا أننا لسنا بإزاء فكرة واحدة وإنما انشطار بين فكرتين، وبالتالي كيف لنا أن نمسك باللحظة التاريخية، وإزاء هذا الفشل، كان لابد ان يحدث الصدام، انقلاب الجغرافيا على الفكرة، ولم يتأخر هذا الصدام، وهذه المرة حدث الانقلاب من الحجر، الجغرافيا، التي نسيها البناؤون من طور سيناء صحراء سيناء. ومن نقطة رفح التي يلتقي عندها أضلاع المثلث الفلسطيني المصري الإسرائيلي. لقد كانت هذه أزمة كاشفة، لتوترات ثلاثة حاسمة، تتعدى حدود أطراف هذا المثلث، لتشمل المسرح العربي بل الشرق أوسطي الكبير. 1-الأزمة الداخلية في مصر بعد الثورة. 2-الأزمة الداخلية الفلسطينية في عدم قدرة الفلسطينيين ليس على استعادة وحدتهم، بل استثمار التحول، الجغرافيا السياسية. 3- أخيراً، الأزمة الأكبر، والأعمق والتي تظهر الدول الثلاث الأكبر في المسرح أي مصر وسورية والعراق، في صراع مصيري مشترك ضد نفس العدو، ولكن دونما التوصل الى استراتيجية موحدة، ائتلاف بينهم. في هذه الأثناء، أطل التحريض المقيت في استعداء الفلسطينيين، مرة أخرى بوجهه الكريه، من لدن بقايا النظام القديم، في محاولة حرف الأنظار عن الأزمة الحقيقية في تجاهل هذه القطعة، الموقع الجغرافي الأكثر أهمية في استراتيجية الأمن القومي المصري أي صحراء سيناء، وانتقاص السيادة التي أملتها اتفاقية كامب ديفيد. ولكن حينما استطاع الرئيس المصري محمد مرسي، بذكاء وحس سياسي واضح، التقاط هذا الحدث الذي صدم المصريين، وصدمنا معهم، لبشاعته وحقارته في قتل جنود ساعة إفطارهم في رمضان، ممسكاً بالمؤسسة العسكرية متلبسة بالتقصير. فان ما حدث يتجاوز هذا الاختبار، ويجب أن ننظر إليه في سياق حرب الاستنزاف والانهاك لإفشال الرجل نفسه، وإحداث الوقيعة بين مصر وغزة مرة أخرى. وعلى المحور الآخر، فإن الأزمة الراهنة والتي لا يتوقع لها أن تنتهي قريباً، هي ضوء أحمر أمام "حماس"، لإعادة النظر في مقاربة الأزمة الداخلية الفلسطينية. وإذا كان يتضح لنا اليوم، أن حركة النهضة الإسلامية في تونس هي السباقة لإحداث المراجعة، ما بعد توليها السلطة، في المنطلقات القديمة للحركة، وهي مراجعة تفرضها الحاجة لإحداث الملائمات. فإن إخوان مصر اليوم هم في أتون مواجهة هذه المهمة التاريخية، وهو ما يفرض على الحركة هنا التأمل في هذا الواقع الجديد. فالأولوية هنا الى المسائل، التحديات الوطنية المباشرة، وليس التصور الطوباوي عن أممية تتجاوز هذه التحديات. وفي ظني أن المسألة التي يجب التوقف عندها، هي المعادلة التي تحكم طريقة الاستئثار بالقيادة، وعقد التحالفات، أو الائتلاف الوطني، وذلك على النحو التالي: 1-حينما تكون أنت الفصيل الحزب الكبير، ولا تنافسك قوة مماثلة لك بالحجم، الكتلة كما الفكرة، تستطيع أن تقود الرتل دون مشكلة، ضمن ائتلاف كما فعلت "فتح" في إطار منظمة التحرير. 2- أما إذا كان الوضع، انك تواجه قوة موازية لك، بالفكرة والحجم، احذر ان تحاول قيادة الرتل منفرداً، لا أن تخاطر بالانفصال وان تلعب وحيداً. عليك أن تعقد مع هذه الفصيل اتفاقاً وتقبل بتوزيع أو تقاسم الأدوار بينكما. لقد كشفت الأزمة عن التوتر الداخلي في مصر، كما كشفت عن أزمة حكم، واستئثار فصيل واحد على الجغرافيا، ولكنها بقدر أيضاً ما كشفت عن هذا الاختلال في ضعف الموقفين المصري والفلسطيني، ونجاح اسرائيل، في تصدير ازمتها، إليهما وبل ودق اسفين بينهما ـ بين "حماس" الإخوانية، ومحمد مرسي الإخواني. فإنها كشفت ضحالة التصور الساذج لمفهوم الأمن القومي المصري، الذي ينطوي عليه اليوم، موقف مصر القاضي بدفن رأسها في الرمال، دون انتباه الى ما يحدث في سورية، عملية قتل الدولة السورية. المخطط الذي يراد منه، تفكيك الجغرافية، وفصل الجغرافية عن الفكرة. فهذه ثلاث أزمات، يحركها عقل شيطاني واحد.